صورةُ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ

mainThumb

15-09-2024 05:54 PM

تصدّرتْ قائمُةُ جبهةِ العملِ الأسلاميِّ على بقيّةِ القوائمِ الحزبيِّة في انتخابِ مجلسِ النواب الأردنيّ لفترة 2024م - 2028م. حيث حَصَدَتْ جبهةُ العَملِ الأسلاميِّ سبعةَ عشرَ مقعداً حزبيّاً من أصلِ واحد أربعينَ مقعداً؛ متفوّقةً بذلك على قوائمِ الأحزابِ الأردنيّةِ الأخرى بفارِقٍ واضِحٍ. و تجدرُ الأشارة الى أنَّ جبهةَ العمل الأسلاميّ قدْ نالتْ هذا الدّعمَ الأنتخابيَّ منْ كافةِ شرائحِ المُجْتمع الأُردنيّ، و أيضاً مِنْ كافةِ المُدنِ و القُرى و البَوادي و المُخيّماتِ الأُردنيّةِ.و هنا يطِلُّ عليْنا سؤالٌ أساسيٌّ ينبغي أنْ نبحثَ عن اجابَتِهِ، و هو: كيفَ نُفَسِّر هذا الواقع الأنتخابيّ الأردنيّ الذي انْحَازَ لصَالحِ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ؟

نشيْرُ في معرِضِ الأجابَةِ عن السؤالِ أعلاه الى أنَّ الأختيارات الأنتخابيّة تعتَمِدُ على الصُّورةِ الذهنيّةِ لدى النّاخبين تجاه الخَيَاراتِ المُرشّحَةِ. ففي الأتجاهِ العامِّ، يمثِّلُ الأختيارُ الأنتخابيُّ عند الأقتراعِ ترجمَةً أمِينَةً لدَرَجَةٍ كَبيْرَةٍ لما تختَزِنُه أذهانُ جموعِ النّاسِ مِن تصوّراتٍ و توجّهاتٍ و رؤى نحو الخيَاراتِ المُتَاحَةِ للأِنتِخابِ. و على هذا الأسَاس تكونُ نتائجُ الأنتخاباتِ كاشِفةً لتوجّهاتِ المُجتمعِ، و على هذا الأساس أيضاً يُمكِنُ مِن استِطْلاعِ توجّهاتِ المُجتَمعِ التنبؤ بالنتائِجِ. اذ تستَقرُّ الصُّورُ الذهنيّةُ عن الأحزابِ السياسيّةِ عبرَ تفاعلِ الأفرادِ مع فعَاليَّاتِها المتنوّعةِ في بيئاتِهم الأجتماعيّةِ على مدارِ الأيامِ و السِّنين ما يؤهلُ بالتّالي لعُمْقِ ارتباطِ السلوكِ الأنتخابيّ بالتصوّرِ الذهنيَّ عن الحِزب المُنتَخب. و هذه الصُّور ليستْ حالة ثابِتة على الدّوامِ بل تتغيّر مع تغيّرِ معطياتِ الواقِعِ. و تتباينُ الصُّورُ الذهنيّة بين أفرادِ المُجتمع، فقدْ تكون ذات مُنْطَلقٍ عقائديّ أو قبليّ أو مناطقيّ أو شخصيّ، لكنّها تبقَى القوّةَ الضّاغِطةَ الرئيسيّةَ على تحديدِ انتخابِ حِزبٍ دونَ أخر. فما هي اذن الصّورةُ الذهنيّةُ الشعبيّةُ الأُردنيّةُ تجاهِ حزبِ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ التي دَفَعَتْ الشّعبَ الأُردنيّ لوضْعِ قائمَةِ الجبْهَةِ في صدَرةِ اختياراتِهِ الأنتخابيّةِ؟

نتَلَمّسُ مِنَ التّفاعُلِ المباشِرِ مع أحادِيثِ النّاسِ العَفويّةِ أنّ الصُّورةَ 'الأيجابيّةَ' لجَبهةِ العَملِ الأسلاميِّ في أذهَانِ الأُردنييْن تستنِدُ على الأتي:

أوّلاً، رؤية دينية ثقافيّة: يعتبِرُ كثِيرُ مِن أبناءِ المُجتمعِ الأُردنيّ جبهةَ العَملِ الأسلاميّ افرازاً لثقافتِهِمْ الدينيّةِ المُجْتمعيّةِ التي تمتدُ جذورُها الى 15 قرناً تقريباً. اذ ينْشَأُ أبناءُ المُجتمعُ الأردنيُّ على تعاليمِ الأسلامِ في الأُسرةِ و المَدرسَةِ و المَساجِدِ و دورٌ الثقافةِ و وسائلِ الأعلامِ و اللقاءاتِ اليوميّةِ و غيرها. و يقدِّمُ جبهةُ العَملِ الأسلاميّ نفسَهُ للمُجتَمعِ كَتنظِيمٍ سياسيٍّ؛ يبْني أدبيّاتهِ و ممارساتهِ على تعاليمِ الأسلامِ. و بذلكِ، يتَماهى المُجتمعُ مع جبهةِ العَملِ على قاعدَةٍ عقائِديّةٍ مشتَرَكَةٍ تؤمِنُ بأنَّ الأسلامَ منهجٌ شامَلٌ للحَياةِ.

ثانياً، رؤية هُوياتيّة: يحتَفِظُ عمومُ الشَّعبِ الأُردنيّ بصورةٍ ايجابيّةٍ للتنظيماتِ الأسلاميّةِ في مقاومةِ الأستعمارِ الأجنبيِّ و حِمايَةِ وجودِ الأُمَةِ و هُويّتِها. اذ يُدركُ أفرادُ الشّعب الأُردنيّ أنّ الدّافعَ الأسلاميَّ هو المُحرِّكُ الأساسُ في تحْويلِ القبائلِ العربيّةِ المُتفرّقةِ الى دولةٍ اسلاميّةٍ قويّةٍ، و منْ ثمّ ظلَّ ذات الدّافع هو المُحفِّزُ لكلِّ حركاتِ المُقاومَةِ ضِدّ كافّةِ الحَملاتِ الأستعماريّةِ على العالمِ الأسلاميّ طوال قرونٍ متعاقِبَةٍ من عُمرِ الدولةِ الأسلاميّةِ. و يَعي الأُردنيّون في العَهدِ الحَديثِ الدّورَ البارزَ للتَنْظِيماتِ الأسلاميّةِ في التصدّي للأستِعمارِ الأوروبيّ في ليبيا و الجزائر و الشّام و اليمن و غيرها. و يعْرِفُ الأردنيّون كذلِكَ دورَ المقاومةِ الأسلاميةِ في الدّفاعِ عن أرضِ فلسطين منذ عقودٍ الى الأن، كما يشاهِدُون مباشرةً منذ أكثر من سنةٍ فصائلَ المقاومةِ الأسلاميّةِ و هي تقارِعُ الهمجيّةَ الصهيونيّةَ التي تعيْثُ خَرابَاً وحشِيِّاً في غزّة و فلسطين في ظلِّ دعْمٍ امريكيّ اوروبيّ، و صمْتٍ عربيّ و عَالميّ. فهي في نَظَرِ الأُردنيين عامّةً قوّةٌ وطَنيّةٌ لصَالحِ حمايَةِ الأمّةِ العربيّةِ و الأسلاميّةِ و ستكُون في خَطِّ الدِّفاعِ الأوّلِ عنْ الأُردُنِّ أمامَ أطمَاعِ كيانِ الأحتلالِ الصهيونيّ.

ثالثاً، رؤية تنظيميّة: تتلخّصُ هذه الرؤية في عدّةِ رؤى فرعيّة، هي: [أ] ينظرُ الأردنيّون عموماً نظرةً ايجابيّةً نحو أعضاءِ جبهةِ العملِ الأسلاميِّ. فهمْ عامّةً يتّصِفونَ بالأستقامةِ و النّزاهةِ الشخصيّةِ، و يحمِلونَ المؤهلاتِ العلميّةِ المُتنوّعةِ، و يثْبتُون كفاءَتَهُم المهنيّةَ في مواقعٍ كثيرةٍ، و ينْدَمِجونَ في كافةِ نشاطَاتِ المُجتمع بنحوٍ طبيعيٍّ سَلِسٍ. [ب] يتلمّسُ الأردنيّون الأستقلالَ الماليّ لجَبهةِ العَملِ حيث تعتمدُ بوجهٍ عامّ على مواردِها الذاتيّةِ مثل اشتراكاتِ الأعضاءِ و اقامةِ المشاريعِ الأستثماريّةِ الضّخمَةِ المُختلفةِ. و هذا الأمرُ يُحرِّرُ جبهةَ العَملِ الأسلاميّ مِنْ املاءَاتِ المُموّلِ الحُكومي أو الفَردي و يسمَحُ لها بحريّةٍ أكبر في اتخاذِ القراراتِ. [ت] يَتصوّرُ الأُردنيّونَ عموماً أنَّ أنتماءَ أعضَاءِ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ لحِزبِهِم انتماءً فكريّاً حقيقيّاً لا مِنْ أجلِ التَّكَسُّبِ الشّخصي. و هذا يُعطيْهِم مصْداقيّةً أكثَر عندَ النّاسِ. [ث] يبدو للأُردنيّين أنَّ نسبَةَ الديمقراطيّةِ في صنْعِ القراراتِ داخلِ الجبهةِ نِسبَةً مرتفعَةً مقارنةً مع الأحزابِ الأُخرى ما يُعزّزُ منْ نزاهَتِهِم في ذِهنِ النّاسِ. [ج] يظهرُ للأُردنيينَ أنَّ تولّي المَناصِب داخل جبهةِ العملِ الأسلاميّ يعتَمدُ على الكَفاءةِ و الخبرةِ لا العُلاقاتِ المَصلحيّةِ بنسبةٍ كبيرةٍ اذا قُورِنَتْ بالأَحزبِ الأردنيّةِ المُختلفةِ ما يَحِدُّ منَ التَناحُرِ الشّخصيِّ و الأنقسَامِ الحادِ داخلِ صفوفِ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ. [ح] ساهَمَتْ كلُّ الرؤى السّابِقةِ في ترسيخِ صورةِ جبهةِ العملِ الأسلاميِّ في أذهانِ الأُردنيين على أنّهُ تنظيمٌ سياسيٌّ فكريٌّ متَماسِكٌ موحّدٌ. فلا يربِطُ الأردنيّون جبهةَ العملَ الأسلاميّ باسمِ شخصٍ بعيْنِهِ أو بفئةٍ محدّدةٍ كما يفعلونَ مع عدَّةِ أحزابٍ أردنيّةٍ أُخرى. و تتعزّزُ وحدَةُ جبهةِ العملِ الأسلاميّ ممّا يراهُ الأردنيّون من قوّةٍ تنظيميّةٍ جماعيّةٍ و عملٍ دؤوبٍ نَّشِطٍ -و بشَكْلٍ تطوعيّ- في الأعدادِ و التنفيذِ لكافةِ فعَاليَّاتِهم خاصّةً الأنتخابات.

ثالثاً، رؤية مرِنة: تستندُ جبهةُ العملِ الأسلاميِّ على مبادىءِ الدّينِ الأسلاميِّ الأساسيّةِ و مبادئِهِ الكُبرى، و لكنّها -كما تَبدو بوضوحٍ لثُلّةٍ من الأردنيين- لا تتصَلّبُ عنْدَ لحظَةٍ تاريخيّةٍ محدّدةٍ أو عنْد تفاصيْلٍ تشريعيّةٍ معيّنةٍ، و لا تنْفَصِلُ عن عصْرِها و واقعِ مجتمعِها. اذ تشَاركُ الجبهةُ في عمليةِ الأنتخابِ و مؤسساتِها وفقَ منطقِ العَصر، بل أنَّها دَعَمتْ مرشّحاً على المَقْعدِ المَسيْحِي. كما تقدّمُ جبهةُ العَملِ الأسلاميِّ البدائلَ العمليّةَ المُقنِعَةَ من أجلِ معالجَةِ مشَاكلِ المُجْتمعِ وفقَ برامِجٍ مدروسَةٍ في كافةِ شؤونِ الحياةِ. و بهذا، تبدو الجبهَةُ في توازنِها بين العقيدَةِ و العَصْرِ أو بينَ المَاضي و الرّاهِن كالماءِ الذي يأخذُ شكْلَ الأناءِ الذي يُوضَعُ فيهِ دونَ أنْ تتغيّر خصائِصهُ الأساسيّة. و هذا ما يجعَلُ جبهةَ العملِ الأسلاميّ في نَظَرِ فئةٍ منَ النّاسِ تنظيماً سياسيّاً لا دينْاً مقدّساً، و يجعلُهَا أيضاً رشيدةً عاقِلةً متّزنةً لا انفعاليّةً متَطرِّفةً.

رابعاً، رؤية دفاعيّة: تتوزّع هذه الرؤية في شكْلينِ، هما: [أ] يملكُ بعضُ الأردنيينَ صورةً سلبيّةً عن الأحزابِ اليساريّةِ و القوميّةِ لأسبابٍ متعدّدةٍ. و ينظرُ كثيرٌ مِن الأردنيين نظرةَ استِخْفافٍ أو عدمِ ثقةٍ نحو معظَمِ الأحزابِ السياسيّةِ التي ظهَرتْ حديْثاً على عَجَلٍ في السّاحةِ السياسيّةِ الأُردنيّةِ. ما جعَلَهُم يتّجِهونَ الى جبهةِ العَملِ الأسلاميّ التي تعملُ في السياسَةِ منذ عقودٍ. [ب] يتحدّثُ بعضُ أبناءِ المُجتمعِ العربيِّ -و الأردنيّ خاصّةً- عن هجُومٍ متعمّدٍ منَ الجهاتِ العربيّةِ الرسميّةِ تجاه جماعةِ "الأخوان المسلمون" و أجنحَتِها السياسيِّةِ في الأقطارِ العربيّةِ المُختلفةِ خاصّةً بعدَ الرّبيعِ العربيّ و تصاعُدِ وتيرةُ التطبيعِ العربيّ مع كيانِ الأحتلالِ. و هذا يولِّدُ تضامناً شعبيّاً عربيّاً مع الجَناحِ السياسيِّ للأخوانِ؛ لأنّه يظهَرُ بمَظهرِ المظْلومِ و لأنَّ العربيّ يعُاني من سوءِ الأداراتِ الرسميّةِ هذا من جهةٍ أو لأنّ اضعَاف الجَناحِ السياسيِّ للأخوانِ في نظرِهِمْ يخدُمُ مشاريْعاً صهيونيّةً و امريكيّةً في المنْطقَةِ العربيّةِ.

في الخِتامِ، أنبّهُ الى وجودِ شرائحٍ سياسيّةٍ اجتماعيّةٍ تقِفُ على النّقيْضِ التّامِ من جماعةِ الأخوانِ و حزبِ جبّهةِ العملِ الأسلاميّ. تروّجُ هذه الفئة -خاصّةً الشيوعيّين و القوميّين- الى أنّ جماعةَ الأخوانِ و تفرّعاتِها صناعةً غربيّةً و بالأخصِّ بريطانيّة. و تَنظَرُ الى الحركاتِ السياسيّةِ ذات المُنطلقِ الأسلاميّ على أنّها خادِمة بالسِّرِ -و أحياناً بالعَلنِ- للأنظمةِ العربيّةِ الرسميّة في تمريرِ قوانينِها الأستبداديّةِ أو بعض السياساتِ التي تلقَى معارضةً شعبيّةً. كما تُتّهمُ هذه الحركاتِ بالأنتهازيّةِ المُفرِطةِ؛ فهي -حسبَ هذهِ الدّعوى- تستَغلُّ الدّينَ و عواطِفَ النّاسِ و عَوَزَهم و فقْرَهُم من أجلِ حَصْدِ المَكاسِبَ السياسيّةِ. و ترى فئةٌ مجتَمعيّةٌ ضرورةَ فصْلِ الدِّينِ عن السيّاسةِ كشرطٍ اجبَاريّ لتحقيْقِ النهضَةِ على خِلافِ ما تراهُ التنظيماتِ الأسلاميّة و مفكّروها. ساهَمَت بلا شكٍّ هذه الصّورُ الذهنيّةُ في حِرمانِ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ شيئاً منْ رصِيْدِها الشّعبيّ. و لكنْ مِنَ الواضِحِ أنّ هذهِ الرؤى المُضَادّة لمْ تصِلْ ضمْن عمليةِ الأستقطابِ الأنتخابيّ الى مُستوى تتحطّمُ عندهُ الصّورةُ الأيجابيّةُ لجبهةِ العملِ الأسلاميّ في أذهانِ الأُردنيين ما مكَّنَها مِنْ الفَوزِ بتأييدِ الأُردنيين عبر صناديقِ الأقتراعِ. لنْ ينْتهِيْ التّنافُسُ بينَ جبهةِ العَملِ الأسلاميِّ و منافِسيْها، و لكِنْ ما نَرجُوهُ أنْ يبْقى الصِّراعُ المَدنيُّ بين الفريْقَيْنِ و خِطابَيهِما مِنْ منْطِقِ التّنافُسِ الأخويِّ في ظلِّ هدَفٍ استْراتيجيٍّ موحّدٍ لا مِنْ مَنْطِقِ الأُخوةِ الأعداءِ.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد