آليات الخطاب الحجاجي

mainThumb

05-09-2024 03:56 PM

تؤدّي اللغةُ دوراً مركزيّاً في عمليّة التواصلِ بين النّاس منْ أجْلِ غاياتٍ متعدّدةٍ. يستَثْمِرُ النّاسُ اللغةَ مثلاً بهدَفِ التّأثيرِ على الأخرين و استِقطابِهم الى جهاتٍ أو أفكارٍ محدّدةٍ عبر توظيفِ آلياتٍ خَطابيّةٍ مختلِفَةٍ. و هذا ما شكّلَ حافِزاً لمُحاوَلَةِ تحديدِ أبْرز تلك الآلياتِ الحِجاجيّة مِنْ خلال ملاحظةِ دقيقةٍ للتّفاعل الكلاميّ الشّفويّ اليوميّ بين النّاسِ في بيئتِهِم الأجتماعيّةِ العامّةِ. يتلخّصُ مُجْمَلُ هذهِ الأٓلياتِ بالأتية:

أوّلاً، آلية التحشيد: يسعى المحاجج عبر توظيف تعابير لغوية معينة الى احاطة موقفه "بالتّحشيد الجّماهيري" في معرض المحاججة ضد فكرة أو موقف معيّن مثل أن يقول: كل الناس يؤديدون فكرة كذا، أغلب الناس يدعمون أو يعارضون المرشح فلان، يتفق المجتمع العلمي على كذا، يجمع الباحثون على رأي كذا. يهدف المتكلم من ذلك الى توفير الحصانه لموقفه بالجموع و اضعاف الخصم المُخالِف من خلال ارهابه بأن عليه أن يواجه جموعا لا فردا.
ثانياً، آلية التّقسيم الفئوي: يتعمد المُحاجِج على استخدام تعابير لغوية محددة تجعل المحاججة ذات صيغة ثنائية تقابلة على شكل "نحن – هم" ما يجلب الدعم لموقفه. أي تنتقل المُحاججة من مجرد نقاش حول رأي بين فردين الى مُحاججة بين عشيرتين مختلفتين أو فخذين عشائريين ضمن العشيرة الواحدة أو تنظيمين ما يُضفي على المُحاججة زَخماً اجتماعيّاً كبيراً يجلب للمُحاجج التّأييد. يلجأ المحاجج عادة الى استخدام ضمير المتكلّم (نحن / احنا) في مُحاجَجة الأخرين من أجل دفع الجماعة الأجتماعيّة الأنضمام اليه و ايهام الأخرين بأنه لا يقف وحده بل يلتَف حوله أخوانه و أقاربه أو أفراد جماعته و حزبه.
ثالثاً، تأكيد الأنا: يحرص المحاجج في خضم التنافس الحار على اظهار قوته الفردية؛ و ذلك عبر التأكيد على امتيازاته و مؤهلاته و حيازاته الشخصية التي تناسب سياق التنافس. على سبيل المثال، يركز المرشح للأنتخابات البلدية أو النيابية أو الرئاسية في مواجهة خصومه على ابراز أهليته من أجل جلب تأييد المقترعين و دعمهم.
رابعاً، تأكيد العلمية: يسند المحاجج رأيه أو موقفه باستشهادات بحثية علمية و أقوال العلماء و المفكرين. أي يستغل المحاجج سلطة العلم و المعرفة و سلطة الثقات في ميدان العلم و الرأي من أجل دعم موقفه مقابل موقف الخصم.
خامساً، الاسناد المقدس: يحاول المحاجج اسناد موقفه في المحاججة مع مخالفيه بايات قرانية و أحاديث نبوية و مواقف مأثورة عن صحابة كرام أو علماء كبار. اي يوظف سلطة المقدس الديني ال>ي يحتل مكانة جليلة في نفوس الناس.
سادساً، الزخرفة الكلامية: يستخدم المحاجج في خطابه كلامي ألفاظا و مصطلحات توحي بالعلمية و الدرجة العالية من الثقافة، أو يوظف الأساليب البلاغية المختلفة ذات الوقع المؤثر على نفس السامعين.
سابعاً، الانتقائية: يقتطع المحاجج الفاظا و تعابيرا معينة من كلام الخصم، أي يخرج المحاجج تلك التعابير من سياقها الخاص، و يوظفها بأعادة تأويلية فيما يضعف حجة المخالف.
ثامناً، التشكيك: يركز المحاجج على تشويه صورة خصمه المخالف في أذهان الناس أو يشكك في مصدر معلوماته أو يشككك بالمعلومات ذاتها بحيث يصورها على أنها معلومات استثنائية هامشية أو يشككبها عبر اعادة تأويلها بما يخدم موقفه.
تاسعاً، التصنيف: يسعى المحاجج الى وضع الشخص المخالف له ضمن فئة محددة أو تنظيم خاص مثل أن ينسبه الى حزب الأخوان المسلمون أو الحزب الشيوعي أو الداعم لجهة ما أو شخص معين ما يسهل من عمليه الانقضاض عليه.
عاشرا، الية طرح المقابل: يطرح المحاجج رأيا معينا ينتقد فيه تنظيما اجتماعيا او مؤسسة معينة او حاكما معينا أو غيرها، فيطرح خصمه مباشرة مُقابلا للجهة او للشخص او للمؤسسة او للحاكم، أي يوهم المحاججة السامعين بأن خصمه متحيز الى جهة مينة عبر طرحه لجهة مقابلة. و ينتقل النقاش بذات الوقت من محاولة فهم وجهة نظر القائل فهما موضوعيا الى محاججة بين مقابلين متضادين. يقول أحدهم مثلا: ان دولة الأحتلال دولة استعمارية مجرمة، فيرد أخر: هل ايران أفضل؟ أي هدف المحاجج الى هنا نقل الحوار من تفنيد صحة الرأي حول بشاعة دولة الأحتلال الى حوار تقابلي تضادي.
الحادي عشر، الية الاغراء: يشير المُحاجج الى المكاسب التي يمكن أن يحصل عليها الاخر من قبوله لرأي أو موقف معين. فمثلاً، يُلمح المُحاجج قيمة التّحالف بين مجموعتين او بلدتين في الانتخابات من انها توفر لهما الفوز حاليا و مستقبليا.
الثاني عشر، الية الأيجابية: يصر المُحاجِح على تكرار آراء أشخاص أخرين الايجابية به و بمواقفه و يميل غالباً الى تضخيمها من أجل كسب مزيداً من التأييد له و مناصرته و يخفي بالمقابل أي أراء سلبية تقال عنه و عن مواقفه أو يسعى الى جعلها ثانوية جدا و غير مهمة.
الثالث عشر، الية بالون الاختبار: يتلفظ المُحاجج أمام خصمه او جماعة معينة بكلمات او عبارات محددة بهدف الكشف عن رد فعلهم و نواياهم مثل أن يهدف شخص الى معرفة رأي الناس في سلوك اجتماعي يريد أن يفعله. و هذا السلوك بطبيعته سلوكاً جديدا يتضمن شيئا لم يُفعل في البيئة الاجتماعية ثم ينتظر استجابة الناس و تعليقهم على الحدث.
الرابع عشر، الية الغمز: يستعمل المُحاجِج تعابير معيّنة بطريقة الغمز او التورية الغير مباشرة بهدف ايصال رسالة ضمنية للسامعين من أجل اقناعهم بشيء او تحصيل استجابة معينة منهم. و يلجأ المُحاجِج عادةً لهذا الأسلوب نظرا لوجود أسباب ضاغطة تمنعه من التعبير بوضوح تام عن مقصده كالشعور بالأحراج ممن حوله او الخوف من غضبهم او ردة فعل قاسية. و من ذلك، يشعر شخص بالنّعاس لكنه لا يستطيع أن يذهب للنوم بسبب وجود قريب عزيز او صديق حبيب. فهو يريده أن يغادر حتى ينام لكنه يشعر بخجل في التصريح برغبته. فيقول مثلاً: صارت الساعة كذا، كدلالة على تأخر الوقت في الليل. و أيضا حينما يخاف شخص من ردة فعل شخص سريع الغصب و حاد الطباع، يلجأ الى سرد قصص رمزية او حكم بليغة و ما شابه.
الخامس عشر، الية استثمار العلاقات: يعرف المُحاجِج العلاقة الطيبة و العميقة بين شخص أو جماعة و بين شخص أخر أو جماعة أخرى. يهدف خلال المُحاججة على ذكر ذاك الشخص او تلك الجماعة بشكل حسن فيه المديح و الكلام الحسن من أجل كسب ود الطرف الذي يحاججه و يلين مواقفه لصالحه. فمثلا، يريد شخص أن ينجح في الانتخابات. يزور جماعة يعلم علاقتهم بشخص قوي. فيذكر هذا الشخص بشكل طيب حسن من اجل ايصال رسالة للجماعة التي يجلس معها: انه يحترم و يحب ذاك الشخص القوي الذي أنتم تميلون له، و يغريهم عبر ايهامهم أنه في صف ذاك الشخص القوي. و هذا كله من أجل كسب موقفهم لجانبه في الانتخابات.
السادس عشر، اليات السخرية والأضحاك: يلجأ المُحاجِج الى تسخيف الرأي أو الموقف المُخالف له عبر تعابير لغوية تتضمن السخرية و الأستهزاء و الأضحاك بحيث يبدو الرأي او الموقف أو الشخص ذاته في نظر الأخرين هزيلاً ضعيفاً سطحيّاً لا قيمة له أو أثر.
السابع عشر، اليات الربط المتعجّل: يقوم المُحاجج في سبيل اثبات رأي معين بالاستدلال عليه من خلال الربط بين واقعة و واقعة أخرى على صفة الاستسهال و الاستعجال و من ثم الأستدلال بما يخدم رأيه. أي يحرص على ترسيخ علاقة جبرية بين واقعتين مختلفتين بحيث يصب الاستنتاج في نهاية الأمر لصالح رأيه الخاص.
الثامن عشر، الية اللعاب على المشاعر: يلجأ المحاجج الى استغلال عواطف الناس تجاه شخص أو فئة أو موقف، فيجعل كلامه متناغما مع هذه المشاعر.

في الختام، حاولت حصر مجمل اليات الخطاب الحجاجي في المناقشات الشفوية الشعبية العامة، و لا أدعي بأني جمعتها كلها. و قد تلتقي هذه الأليات مع ما طرحه الباحثون في دراسات التحليل النقدي للخطاب و الدراسات النقدية عامة و دراسات الحجاج، و لكني فضلت على التعبير عنها بتسميات خاصة.

و أشير ختاما الى ان استيعاب "السياق" خطوة أساسية في الاستعمال التداولي للمقولات اللغوية في اطار المُحاججة. و يتضمن السياق فهما للموقف الأجتماعي من حيث زمنه و مكانه و الأشخاص المشتركين فيه و البيئة الأجتماعية العامة للموقف. و بناءً على ذلك الفهم العميق للسياق، يوجّه المُحاجِج عباراته بما يخدم أهدافه الذاتية. و هذا يعني أن لكل قول حجاجي عدة أطراف:

١- قصد المحاجج

٢- التعبير الكلامي أي المقولات

٣- السياق الاجتماعي: الموقف، زمانه و مكانه و أشخاصه. ما يجعل يعتمد المُحاججة الخطابية يعتمد بقدر كبير على مدى براعة المُحاجج في فهم السياق بدقه، و توظيف الياته الحجاجية الكلاميّة ضمن هذا السياق في تحقيق مقاصده.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد