الأمير في مهبّ الأهواء؟

mainThumb

03-09-2024 11:23 PM

كثر الحديث في الشهور الأخيرة عن الأمير عبد القادر الجزائري، وكيفيات الاشتغال عليه إبداعياً، سينمائياً وأدبياً، من خلال السؤال الكبير: أي أمير نريد؟ أمير ستاتيك لا يتطور عبر التاريخ، أمير الكتاب المدرسي الذي يحمل بندقية على ظهره ولا يعرف إلا الحرب، بينما مساحة الأمير أكبر من ذلك وأعظم: إنسانيته وقوته الروحية وبعده العالمي، القيمة الثقافية والحضارية؛ أم الأمير المثالي كما في الخرافات والأحاجي حيث ينتصر البطل على كل المعوقات والحواجز؟ ويفقد بذلك أهم خاصية فيه وهي الخاصية البشرية في كل تناقضاتها، ولكن التي تنتصر في النهاية للحق والحرية وكل ما يرفع الإنسان عالياً؛ أم الأمير العائلي الذي لا مرجع له إلا المرجع الذي تحدده العائلة، بحيث يتم رفض الأجسام الغريبة عن العائلة لأنها «تشوه» الصورة «المقدسة» للأمير، والكل محكوم بذاتية تجعل من العائلة العارف الأوحد لشخصية الأمير وتاريخه والمرجع التاريخي، إذ لا تاريخ إلا ما تتكرم بقوله العائلة؟ أمير يكاد يكون «سوبرماناً» يرضي النفوس التي تحتاج إلى من يقودها في أوقات الهزائم، لكن هذه الصورة تبتر جزءاً مهماً من الأمير، حياته في كل تناقضاتها وتقلباتها وقلقها أمام تاريخ صعب كان ينشأ أمام عينيه، وهذه الصورة» السوبرمانية» كثيراً ما تفتقر إلى التاريخ.
أتحدث هنا عن موضوعات ظهرت وستظهر عندما يعاد تشكيل الأمير سينمائياً وأدبياً. التقيت بالمرحومة الأميرة بديعة قبل سنوات، ولم تكن تحمل لي وداً كبيراً لأنها كانت ترى أني اختلقت أشياء كثيرة عن الأمير، وهي ليست فيه. وهي مؤرخة يغلب على أغلب تحليلاتها الجانب الديني، لهذا وضعت الأمير منذ بداية تقصيها في كتبها، في الدائرة الدينية وأن كل نضال هؤلاء القادة هو عبارة عن علامات ظاهرة لبقايا حرب صليبية فرضت عليه وقاومها بقوة. ودار بيننا نقاش يعرفه المختصون جيداً، استمر فترة طويلة بعد صدور روايتي [كتاب الأمير/ مسالك أبواب الحديد]. عاتبتني بشدة على مجموعة من الملاحظات التي تعتبرها تاريخية، منها أني قربت الأمير من المسيحية والفرنسيين بينما ظل الرجل مسلماً مقيداً بشرطيات دينه، وعدواً صريحاً ضد الفرنسيين. ولم يعرف في حياته لا نابليون بونابارت ولا غيره. كانت تهمه حرية وطنه أولاً وأخيراً، ولا شيء غير ذلك.
كيف جعلت الأمير صوفياً، تقول الأمير بديعة دائماً، بينما ظل طوال حياته مسلماً سنياً ملتزماً لا يؤمن بالخزعبلات الصوفية أو ما يسمى بالكرامات. عقله يتنافى مع ذلك وكل ما يشرك بالقوة الإلهية. أنت يا بني، كفرته حينما جعلته يلتقي بالماسونية لدرجة أنه يشم من كلامك أنه كان ماسونياً، ملتزماً بضوابطها العلمانية المضادة لديننا الإسلامي.
متأكد من أن ملاحظات الأميرة بديعة كانت تنبع من داخل محب يريد أن يحافظ على صورة الأمير الأصولية، في «نقائها» ويرفض أن تطالها الأيادي التي عملت وتعمل على «تشويه» صورته. أفكار تنبع من داخل قالب صنع للأمير ليظل حبيسه، أي لا مجال لما سيكتشف لاحقاً من وثائق عناصر حياتية خاصة بالأمير، يمكن أن تنمي صورته.
الأميرة بديعة التي كانت تريد أميراً عائلياً وليس أميراً إنسانياً أوسع، توقفت عند حدود المعطى الذاتي الداخلي. إذا كان هذا الكلام ينبع عن سريرة صادقة، فهو لا يكفي؛ لأن التاريخ يقول عكس ذلك تماماً. باختصار، علاقة الأمير بالأديان الأخرى كانت واضحة وكبيرة وعميقة دون أن تمسسه في إيمانه العميق مطلقاً. كان صديقاً حميماً لمونسينيور ديبوش كما أوضحت ذلك في الجزء الأول من كتاب الأمير. لا الأمير تنكر لهذه العلاقة ولا أول قس للجزائر فعل بالمثل. كانت رؤية الأمير واسعة فوق الحدود الوهمية للأديان. طبعاً، هو لم يعرف نابليون بونابارت (1769-1821) وإلا سأكون مجنونًا. الفاصل التاريخي بينهما واضح، ولكن الأمير عرف نابليون الثالث. الذي بعد انقلابه أوقف العمل بالدستور وبالبرلمان الذي ظل يقف في وجه تحرير الأمير والوفاء الفرنسي بالوعود. لولا الانقلاب النابليوني لاستمرت النقاشات البرلمانية بالنسبة لوضعية الأمير إلى ما لانهاية، ربما حتى موت الأمير في الحجز. فقد انتقل نابليون الثالث إلى قصر أمبواز وحرره.
أما بخصوص صوفية الأمير التي شككت فيها الأميرة بديعة، فهي مثبتة ولا جدال فيها. هو من حقق مخطوطة [الفتوحات المكية] لابن عربي، ودفع من ماله لجلبها من قونيا والإشراف على تحقيقها وطبعها، وقد كتب على الصفحة الأولى من المؤلف: طبع هذا السفر على نفقة الأمير عبد القادر الجزائري الحسني. وهو طبعاً من كتب كتاب «المواقف» تماشياً مع معلمه الروحي الشيخ الأكبر، ابن عربي. الأكثر دلالة من هذا كله، تنفيذ وصيته بدفنه بجانب شيخه الأكبر، وهو ما حدث بالفعل.
أما عن الماسونية ولقائه ببعض أقطابها، فابنه محمد ذكرها في كتابه «تحفة الزائر» وفصل فيها. بعد أن أنقذ 15 ألف مسيحي في الشراع إبان صراعات 1860 استقبله الكثير من الحكام؛ لأنه أنقذ أيضاً قناصلهم من موت مؤكد، وخاض حرباً عنيفة ضد المتطرفين. تقرب منه الماسونيون في ذلك (لأن الماسونية تغيرت جذرياً لاحقاً) وطلبوا منه أن يكون أخاً لهم.
الرؤية العائلية على عاطفتها الصادقة، فهي عمياء. وتدمر تاريخية الأمير وسلطان استمراره في الذاكرة الجمعية.
من أجل هذا كله، يجب التنبه للاختزالات القاتلة، فالأمير ليس شيئاً واحداً، هو قيمة ثقافة وحضارية وإنسانية وأكبر من الذوات القلقة، الذات العائلية، الوطنية، السياسية، الأيديولوجية. هناك خطر آخر لا يقل عنفاً عن الحالة الأولى هي تجيير الأمير لأهداف سياسوية ضيقة مرتبطة بلحظة زائلة، تختزل الأمير في دائرة ضيقة لا تظهر إلا ما يرتضيه السياسي لتبييض وجهه. الأمير أكثر من هذا كله؛ فهو الرجل المتعدد، البطل العظيم، لكن أيضاً الإنسان الذي ارتكب أخطاء في الحسابات أضرت به. على سبيل المثال، الحرب التي خاضها ضد الزاوية التيجانية التي لم يكن لها أي مبرر؟ وحصار عين ماضي التي تم تدميرها بالمدافع من خلال خديعة لم يتفطن لها إلا لاحقاً، التي كان من ورائها الجاسوس ليون روش، الذي يذكر في كتابه «اثنتان وثلاثون سنة عبر الإسلام» وتفاصيل حصار عين ماضي. هذه الحرب غير المبررة غيرت مسار المقاومة في بعض المناطق ومنها قسنطينة، حيث تم عزل أحمد باي وتركه وحيداً في مقاومة الاستعمار، ماذا لو اتحدت القوتان؟ وتخطّي هذه اللحظات القلقة في زمن متحول ومتحرك ينقص من دينامية الفعل وانعكاسه على الأمير وكيف تطور الرجل في مساره الحياتي. الخطأ وسوء التقدير هما في النهاية، فعلاً، إنسانيان؛ جل من لا يخطئ. وجود هذه التفاصيل في المجال السينمائي والروائي لا تضر مطلقاً بالقيمة الإنسانية للأمير، بل ترفعنا وتجعلنا نقول: كم يشبهنا هذا الرجل العظيم!

(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد