فروغ فرخزاد… شاعرة وأربعة رجال (2)

mainThumb

26-08-2024 10:49 PM

كتبتُ في ختام مقال الأسبوع الماضي عن الشاعرة فروغ فرخزاد، أن ثمن انفصالها عن زوجها برويز شابور كانت له عواقب وخيمة، بقيت تنزف من قلبها إلى حين رحيلها الكارثي المفاجئ، وأكثر هذه العواقب دراماتيكية حرمانها من رؤية وحيدها كامي إلى الأبد.

البحث عن الابن المفقود:

«صَحِيحٌ بِأَنِّي هَرَبْتُ/وَهَلْ كَنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَحْمِلَ الطِّفْلَ بَيْنَ يَدَيَّ/وَأَتْرُكَ حُرِّيَّتِي عِنْدَهُمْ»*

كاميار أو كامي كما كانت تسمّيه هو ابنها الوحيد من برويز أنجبته بعد عام واحد من زواجهما وهي في السابعة عشرة من عمرها. أسالت قصة تخلّيها عن ابنها حبرا كبيرا، وأدانها لأجلها كثيرون، والسؤال المحير: كيف تتخلى أمّ شاعرة ملتهبة العواطف، عاشت عمرها كله تبحث عن الحب عن وحيدها طواعية. للإجابة عن هذا السؤال لا نجد أفضل من فروغ نفسها بالرجوع إلى رسائلها لأبيها ولزوجها وهي كثيرة وبما بثته في قصائدها أيضا. فلا يمكننا الاعتماد على تفسير الابن فقط، فقد هجرته وهو في الرابعة من عمره وتوفيت وهو في الرابعة عشرة وخلال هذه العشر سنوات الكاملة لم تره إلا مرة واحدة اصطحبته فيها من مدرسته، وأرادت أن تجلس معه في مقهى فهرب منها، لأنها تلفت الانتباه كثيرا، كما قال وهو ما ندم عليه حين كبر، ولأنه كما صرح مرة يعرف أمه عن طريق شعرها أكثر من المعرفة الشخصية، فذكرياته عنها تكاد تكون منعدمة.

تقول لنا رسائلها لأبيها أنها في السنوات الأربع التي عاشتها في بيت الزوجية، كانت أمّاً مثل بقية الأمهات اللواتي يردن معرفة الكثير عن تربية الأبناء، فكلما «صادفت في كتاب أو صحيفة أو مجلة مقالة عن أسلوب تربية الأطفال تقرؤها بدقة وتحفظها، حتى تستخدمها في المستقبل من أجل ابنها» وتطلب من والدها أن يقترح عليها كتبا في تربية الأطفال وهي التي تعيش في الأهواز مع زوجها الموظف بعيدا عن خبرة أمها وحماتها، بل إن موضوع تربية ولدها في تلك الفترة كان همها الشاغل، وتريد الاستزادة منه وتقضي معظم وقتها مع زوجها برويز في الحديث حول أسلوب التربية وطرقها، وما عليها فعله لابنها ولمستقبله، كما كتبت. وليس لها من أمنية سوى «أن تكون أماً جيدة لكاميار وتربيه كما تتمنى» بل في أحدى رسائلها لأبيها تسجل التفاصيل الصغيرة بعين الأم التي ترى تصرفات ابنها الصغير العادية عبقريةً يجدر بها أن ترويها فتكتب «كاميار بفوضويته وضجيجه يشغلنا في الدقائق التي انشغلت بها للكتابة، قَلَبَ الغرفة سحب الفرشة وأسقط المزهرية على المدفأة وسكب الماء على السرير، مزق صحيفة اطّلاعات، ثم جاء لذراعي وأدماه بأظافره. والآن وأنا منشغلة بالكتابة لك يسحب القلم من يدي ويطالب بالورقة لتمزيقها».

وقد أعلنت فروغ عن هذا التعلق بابنها شعرا ونثرا، فحين مرض بالزكام أخبرت جده أنّ كلّ أملها أنّ ابنها «يتشافي قريباً ويعيد الدفء للعائلة بفضوليته ولعبه». ولما أصابته الحمى وثّقت ذلك في قصيدة «المريض» في مجموعتها الشعرية الأولى «الأسيرة»: «طفل يغفو بأحضاني ويئن/بوجنتين حمراوين من شدة الحمى/بشعره الفوضوي في منتصف الليل/يرتجفُ بين يديّ/أصابعه النحيلة محمومة بين قبضتي/أنادي الربّ../خُذْني بدلاً عَنْهُ وَأَرِحْهُ مِنَ الألم». وحتى علاقتها بأهل زوجها لم تكن سيئة، فحين رجعت إلى طهران مع ابنها وبقي زوجها بحكم وظيفته في الأهواز، كانت تخبره بتفاصيل يومياتها في رسائلها، وقد كتب عمران صلاحي – الذي جمع رسائلها إلى برويز شابور بمساعدة كامي نفسه ـ مقدمةً كانت عبارة عن رسالة إلى كامي يخبره فيها ضمن أشياء أخرى عن علاقة أمه بجدته فيذكر «حين كان والدك في الأهواز، والدتك كانت تزور أهله كل صباح لتخرج إلى النزهة مع جدتك وعمتك «دخي» التي كانت تحب فروغ كثيرا». وكانت فروغ تجمع مبلغا مما تحصّله من نشر قصائدها لتتمكن من شراء دراجة ذات ثلاث عجلات له. وقد أخبرت زوجها بكل هذه التفاصيل، مثل أي زوجة محبّة لزوجها وابنها «إنّ كامي منذ الصباح وإلى الليل يلعب ويشاغب، وأنا في هذه الفترة في الطابق العلويّ في غرفتي أقرأ وأحياناً أكتب، وحين أضجر أذهب لأجلس قرب أمّي».

فما الذي جعل هذه الأم المتيّمة بابنها حدّ الوله، والتي تكتب عنه «أحب ابني كثيراً وقد لا أحب أحداً مثلما أحبه، كلما احتضنته وضغطته على صدري تمتلئ عيناي بالدموع، وأشعر بأني محظوظة جداً وأطلب من الله أن أربيه كما أتمنى» تتخلى عنه وتسافر إلى أوروبا وتتركه. التفسير المنطقي أن مردّ ذلك إلى طبيعتها القلقة، التى وصفها ابنها أنها اضطراب ثنائي القطب (اكتئاب هوسي) وأنها ورّثته ذلك. وهشاشتها لا تخفى على أي قارئ لسيرتها تختصرها محاولاتها الانتحار أكثر من مرة، شابة صغيرة عانت كثيرا من تسلط والدها تهرب من واقعها إلى زوج تفترض أن تجد عنده مساحة حرية أكبر، لكنه ارتباط بشخص أكبر منها عدة سنوات يعيش بعقلية موظف لا بجرأة مغامر، يقول عنه ابنه إنه بقي لثلاثين سنة يسلك الطريق نفسه إلى عمله. وفي المقابل تنشر فروغ قصائدها فينفتح لها عالم لا محدود ساحر، أدخلها سراب الشهرة باكرا، حيث نشرت ديوانها الأول وهي مراهقة في السابعة عشرة من عمرها، ولاقى انتشارا كبيرا وأثار جدلا أكبر. ووجدت أن ما يحول بينها وبين تحليقها في سماء الحرية والإبداع بيتٌ زوجي وابن صغير، وما يعنيه ذلك من مسؤولية، وقد ذكرتْ هذه المفاضلة صراحة لإحدى صديقاتها حين كتبت لها «لا يمكن للإنسانة أن تكون أما جيدة وزوجة جيدة وشاعرة جيدة عليها اختيار إحداها».

وبنزق الشباب وهي في الحادية والعشرين من عمرها كانت قد حسمت أمرها، لولا بقية تردد سببه كامي فـ«لو رحلت من سيمشط شعره؟ من سيخيط له ثيابا جميلة؟ من سيرسم له على الورق فيلا وسيارة ودراجة؟ من سيحبه بقدر ما أحبه؟». لكن في النهاية قررت فروغ ملاحقة حلمها والتخلي عن كامي، بعد أن بقي معها شهرين بعد انفصالها عن زوجها لكنها أرجعته إلى والدة شابور معللة ذلك بأن أجواء منزلهم لا تناسبه «فأنا نفسي لست مرتاحة في البيت لكي يرتاح هو». ورغبت في أن تسافر إلى إيطاليا وقد وصفت لحظة توديعها لكامي بكلمات تقطر وجعا، فبعد أن اشترت له سيارة صغيرة وقبلته كثيرا كتبت «ثم انفصل عني مثل ورقة تنفصل عن شجرة … في هذه اللحظة شعرت أن كل ما له اسم فرح خلوت منه». ولحظة التخلي ما برحت تعاودها بكل مرارتها وأفرغتها شعرا في قصيدتها «بيت مهجور»: «أعلم الآن أن طفلا حزينا/يبكي على فراق أمه/لكنني أنا النادمة المتعبة الروح/أطوي درب الأماني/رفيقي الشعر وعشيقي القصيد/أسير لأصل إليه».

كانت فروغ تعتقد أنها ستبقى على صلة بابنها ككل الأمهات اللواتي تطلقن، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فحين رجعت من إيطاليا ذهبت لرؤية كامي فمنعتها جدته من رؤيته، بموافقة ضمنية من والده، مع أن زوجها بقي على علاقة طيبة بها، وكان هذا المنع جرحا نازفا في قلبها لم تقدر على تجاوزه «في ذلك اليوم عندما ذهبت لرؤية كامي للمرة الأولى ولم تسمح لي والدة شابور برؤيته، أردت أن أقتل نفسي» وحين طلب منها والدها أن تستعين بالقضاء لرؤية ولدها، قالت بأنها ليست مستعدة أبدا لأخذ شرطي لرؤية ابنها. قال كامي إنه بعد ذلك لم يرها إلا مرة واحدة حين ذهبت إلى مدرسته، لكني أعتقد أنها مثل كل أم متيمة بوحيدها كان تتبعه خلسة وتسعى لرؤيته ولو من بعيد، ولو كابرت واعتبرت أن التخلي عنه كان خيارها، لكن عبارتها تفضحها «عندما أرى كامي في الشارع حيث إن قامته الآن تقترب من كتفي في الارتفاع ، يبدأ جسمي في الارتعاش وقلبي في التشقق، لكنني لا أريده، لا أريده، فما فائدة مثل هذه الروابط والعلاقات». لكنَّ الحقيقة أنها كانت تريده وبشدة تشهد على ذلك قصائدها فقد كان حاضرا في شعرها. يذكر ابنها أنها كتبت عنه خمس قصائد، منها ثلاث قصائد في مجموعة أسيرة وقصيدتان في مجموعة متمردة، بل تبنت الطفل حسين وهو ابن والدين تعرفت عليهما حينما كانت تعدّ فيلمها «الدار السوداء» عن مصحة المجذومين تبنته فقط لأنه يشبه كامي، تقول «إنني أرى كامي في وجه هذا الطفل. عندما أمسك يده بيدي أو أمسح على شعره، لا أستطيع إطلاقا تأكيد أنه حسين أو كامي، لا فرق، أشعر بأنه ابني فقط». وكان قَسَمها الذي لا تحنث به «وحياة ولدي».

ماتت فروغ في حادث مأسوي وابنها كاميار في سن المراهقة، وقد تمنت يوما أن يكون شاعرا أو كاتبا عندما يكبر، وقد تحقّق ما تمنّته، فأصبح شاعرا وموسيقيا ورساما، ورث السخرية عن أبيه والشاعرية عن أمه التي جنت عليه مرتين: مرة بقصد حين تخلت عنه، وأخرى بغير قصد لأن الجميع لا يذكرون من كل مزاياه سوى أنه ابن «فروغ فروخزاد».

(*) من قصيدتي «أربع رسائل من فروغ».


(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد