خطابُ المُشاركة والمُقاطعة

mainThumb

25-08-2024 04:04 AM

نتلمّسُ ثلاثَةَ مسَاراتٍ يقرأُ بهِا النّاسُ الأَحداثَ و ينتِجِونَ خطاباتهم نحوَها في اطارِ تفاعلِهِم الأجتماعيّ - السياسيّ. طريقٌ صارمٌ يتّخذُ مِنَ الحِسابِ العقليِّ فقط أساساً لفهمِ الأحداثِ و انتقاءِ خياراتهم نحوها، و طريقٌ منْفَعِلٌ يستنِدُ على الأرادةِ الأنسانيّةِ المتوقّدةِ فقط، و ثالثٌ راشِدٌ يوازنُ بين صرامَةِ العقلِ و انطلاقةِ الأرادةِ. و يتغلَّبُ مسارٌ عند فردٍ أو تنظيمٍ على مسارٍ أخرٍ حسْبَ مُحرِّكاتِهِ الأساسيّةِ: أهيَ ايديولوجيِّة أو مَصْلَحيِّة انتِهازيّة أو علميِّة جمعيّة نزيِهَة في تناغُمٍ مع بيئةِ الحَدَثِ المَقصُودِ. و لكن كُلُّها يضْمِرُ صِراعاً ناعِماً خلفَ خِطاباتِهِا؛ يَهدِفُ من خلالهِ كلُّ فردٍ أو تنظْيِمٍ الى حَسْمِهِ لصَالِحِهِ. و هذا ما يمْكِنُ أنْ نَجِدَهُ بوضُوحٍ في كيفيّةِ رؤيةِ الأُردنيين لعمليّةِ الأنتِخاباتِ النيابيّةِ في الأردن و مواقفِهِم نحوَها باعتِبارِها أَحد أَبرزِ الأحداثِ الأجتماعيّةِ - السياسيّةِ.

يوثِّقُ الحِسَابُ العقليُّ معطيات ثقيلةً للأنتخاباتِ على الأُردنيين تتمثّلُ بالأتي: (1) نظرة تاريخيّة غير متفائلة نحو الأنتخابات النيابيّةِ بسببِ ما تختزِنُهُ الخِبرةِ من: تقييدات قوانين الأنتخابات، و التدخل الأمني و المال السياسيّ في الانتخابات، و تزوير نتائج الأنتخابات، و انتهازيّة المرشّحين، و سيطرة العقليّة القبليّة أو المَناطقيّة، هندسَة الحياة الحزبيّةِ و ضعفِ الأحزاب، و ضعف تمثيل النواب للأرادةِ الشعبيّةِ. (2) نظرة سلبيّة نحو البرلمانِ و السياساتِ الحكوميّةِ سببُها ما يشْهَدُه الأردنيون مِن: ازدياد معدلات الفقر و البطالة و المديونيّة و الضرائبُ، و تأٓكُلُ الرّواتبُ، و تراجعُ الخدمات العامّةُ، و تقييد الحريّات العامّة بقانون الجرائم الالكترونيّة و قانون منع الجرائم، و اعتقال النشطاءِ، و فشل خطط الأصلاحِ المتكرّرةِ. (3) نظرة مُحْبَطَة نحو الوضعِ الخارجيِّ بسبب ما يراهُ الأردنيون من تدميرٍ قتْلٍ في غزّة بدعمٍ دوليٍّ و في ظلِّ عجزٍ عربيٍّ، و استَشْعار خطرَ كيان الأحتلالِ على فلسطين و الأردنِ، و تكبيل حريّة البلادِ باتفاقيات مع كيان الأحتلالِ و اتفاقيات الدّفاعِ و وجودِ قواعدٍ عسكريّةٍ أجنبيّةٍ على أرضِ الأردن.

يتَشكّلُ مِنْ هذه المُعطيات الواقعيّةِ أطارٌ ذهنيٌّ متشائِمٌ يفكِّرُ من خلالهِ كثيرٌ من الأردنيين بالأنتخاباتِ. اذ يتولّدُ عن هذا الأطارِ "خطابُ المُقاطَعَةِ" للأنتِخاباتِ النيابيّةِ المُزمعِ اجراءها في العَاشرِ من شهرِ ايلول لعام 2024م. بصيغةٍ أُخرى، يستَنِدُ خِطابُ المُقاطعةِ على تشاؤمِ العقلِ من معطيات الواقعِ ما يَجْعَلُ التغييْرَ عبر الأنتخاباتِ في نظَرِ هذا الخِطابِ أمراً صعبَاً أو متعذّراً. و بذا، يختارُ قسْمٌ من الأردنيين وفقَ حسابٍ عقليٍّ عدمَ المُشاركةِ في الأنتخاباتِ كآليّةٍ مشْروعةٍ للدّفاعِ عن مصالِهِم الوطنيّةِ في ظلِّ صراعٍ ساخِنٍ مع القوى الأجتماعيّةِ و السياسيّةِ المُضَادّةِ التي تسعى لترسيِخِ الوضعِ القائمِ. و لكن قدْ يتبنّى بعضُ الأفرادِ و التنظيماتِ المُجتمعيّةِ خطابَ المُقاطعةِ و يتمُّ تَوظيْف معطياتِهِ العقليّةِ ذاتها استِجابةً لضُغوطٍ ايديولوجيّةٍ مثل افشالِ الأنتخاباتِ في معرضِ الصراعِ مع السّلطةِ الحَاكمةِ و القُوى المُنافسةِ بما يخدمُ رؤى خاصّة، أو استجابةً لغايات منفعيّة مثل تلبيةِ رغبة قوى اجتماعيّة و سياسيّة بالمُقاطعةِ مقابل منافعٍ فرديّةٍ أو قبليّةٍ أو مناطقيّةٍ.

من جهةٍ مقابلةٍ، يقومُ "خطابُ المُشاركةِ" في الانتخاباتِ النيابيّةِ على اطارٍ ذهنيٍّ يستَنِدُ على تفاؤلِ الأرادةِ ما يحفِّزُ نحو المُشاركةِ في الأنتخاباتِ. و ينهَضُ أطارُ هذا الخِطابِ على عدّةِ معطياتٍ، هي: (1) أَساس فكريّ يُراهِنُ بنحوٍ مُطلقٍ على فاعليّةِ الأنسانِ و قدرَتِه على التغييرِ رغم خشونَةِ الواقِعِ خاصّةً اذا أحسَنَ حَقْن الأرادةِ المُتَوقِّدةِ بخطواتٍ عقليّةٍ مدروسَةٍ. (2) توجّهاتٍ سياسيّةٍ جديدةٍ تعلنُ الرغبةَ في الأصلاحِ الجادِّ عبّرتْ عنها بتعديل قانون الأنتخابِ، و تشجيع العمل الحزبيّ، و منع التدخل الأمني و تزوير النتائج. (3) مساهمةٍ ايجابيّةٍ تدفعُ الأردنيين لأنتِخابِ مَنْ يُشْهَدُ له بالأستِقامةِ الوطنيّةِ ضدّ المُرشّحين الانتهازيين و المَصَلحيين ما يصُبُّ بالتّالي في مصلحَةِ عمومِ الأردنيين. و نؤكّدُ هنا أنّ بعْضَ الأفراد و القوى السياسيّةِ قدْ تتبنّى خطابَ المُشاركةِ و تستثمِرُ معطياته المُتفائلة كي تحشِدَ الأنصارَ حول ايديولوجيّتها و تضمَنُ تفوّقَهَا أو لأقناعِ القوى الكُبرى باستقرارِ الأردن في اقليمٍ مُشتَعلٍ بحيث يضمَنُ استمرار دعمها للسّلطةِ الحاكمةِ، و قدْ يتّخذُ بعضُ الافراد أو القوى ذاتَ الخطابِ و معطياته لضَمَانِ مكاسِب شخصيّة خاصّة.

في الختام، توجَدُ داخل المجتمعِ الواحدِ تنظيماتٌ متعدّدةٌ بينها تدافعٌ مدنيٌّ من أجلِ تعزيز نفوذِها ضمن اطار سلامةِ المجتمعِ. ففي الأحداثِ المُجتمعيّةِ التي تستدعي استجابةً على شكلِ "مع/ضد" كالانتخابات، تتحدَّدُ توجّهاتُ هذه التنظيماتُ بشكلٍ أساسيّ بأهدافِها الايديولوجيّة أو مكاسِبِ أعضاءِها الأنتهازيّة ما يجعلها تتراوحُ بين خدمةِ رؤى خاصّة أو مغانمَ خاصّة سواء اختارتْ الأنحياز لمسار العقل او مسار الأرادة؛ مُشاركةً أو مُقاطعةً للأنتخاباتِ. من الواضِحِ اذن أنّ الطريقَ الرّاشِدَ الذي يخدمُ الشعبَ عامّةً هو الطريقُ الذي يتَسلَّحُ بالعقلِ و الأرادةِ على أرضِ المُصلحةِ العُليا. أيْ ذاك الطريق الذي يتحلّى بأرادةٍ متوهّجةٍ لكنّها عاقلة تدفعُ نحو المُشاركةِ الايجابيّةِ الجماهيريّةِ - لا الفرديّةِ- بحيث تنتخِبُ خياراتها في صنايقِ الاقتراعِ بما يخدُمُ الخيرَ العامَّ فقط. فلا يستَسلِمُ الطريقُ النزيهُ للواقِعِ و لا ينجَرُّ وراء أرادةٍ متهوّرةٍ انّما يُهذِّبُ الأرادةَ بمعطيات العقلِ و العلمِ، و يحفّزُ العقلَ بوهَجِ الأرادةِ؛ و يصُبُّهما معاً في دورقِ التغييرِ على قاعدةِ مصلحةِ الجميعِ.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد