فروغ فرخزاد: شاعرة وأربعة رجال (1)

mainThumb

19-08-2024 12:33 AM

كانت الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد مثل معنى اسمها ضوءا أنار سماء الشعر الفارسي، اختلف القراء والنقاد حولها على السواء، فحوكمت أخلاقيا وحتى دينيا، بل أُدينت أشعارها قبل الثورة ومنعت كتبها في بلدها إيران بعد الثورة عشر سنوات كاملة، لكن يتفق الجميع على أنها صوت شعري متفرد، لا يشبه أحدا وإن تشبهت الكثيرات بها. فرغم عمرها القصير (ماتت بحادث سيارة في الثانية والثلاثين من عمرها) ومجموعاتها الشعرية القليلة (صدر أربع منها في حياتها وخامسة بعد وفاتها) إلا أنها حققت ما كتبت يوما لوالدها في إحدى رسائلها «أردت وأريد أن أكون كبيرة، لا يمكنني الحياة مثل آلاف الناس يولدون في يوم للعالم وفي اليوم الآخر يرحلون، دون بقاء علامة من مجيئهم ورحيلهم» وقد كان لها ما أرادت.
عشقتُ شِعرها وقرأته بلغته الأصلية الفارسية ومترجما إلى العربية وفي الحالتين ترك في وجداني تأثيرا كبيرا وإعجابا متجددا، فلم يزدني الوِرد من شعرها إلا عطشا، لم يرو غليلي أني كتبت عنها قصيدة «أربع رسائل من فروغ» وأشعر بالحاجة الدائمة لفهم أفضل لهذا الكوكب الذي توهّج بسرعة ثم انطفأ، فهي في حقيقتها لم تكن سوى ذاتٍ مبدعة هشة، تحمل في جسدها النحيل روحا كل طموحها ما وصفتْ به نفسها «أردتُ أن أكون امرأة، أي أن أكون كائناً بشريّاً، أردت أن أقول إنني أنا أيضاً لي الحق في أن أتنفس وأن أصرخ، لكن الآخرين أرادوا أن يخنقوا ويُخرسوا صراخي على شفتي، وأنفاسي في رئتي». فمن هؤلاء الآخرون الذين تعنيهم فروغ؟

الضابط ذو الحذاء الحديدي:

(وَمَا نَفْعُ كُلِّ النَّياشِينِ تَحْمِلُهَا/ وَتَضِيقُ بِأَحْلَامِ ابْنَتِكَ المُتْعَبَهْ)*
كان الكولونيل محمد فرخزاد اللاعب الأساسي في حياة ابنته فروغ، فعلاقته الملتبسة والمعقدة بها تركت ندوبا في روحها المعطوبة، قضت حياتها القصيرة كلها في محاولة يائسة للشفاء منها، بل كانت تبحث عن والدها كما تشتهي أن يكون في كل رجل التقته وفي كل شخص أحبته، وقد أشارت إلى هذه الحقيقة أختها بوران، أقرب شخص إليها حين كتبت عنها «الرجال الأساسيون في حياتها، رجال في منتصف العمر وكبار السن، أي أنها مفصولة عن سنها الحقيقي، ويمكنني القول إن أهم أسبابها عدم محبة أبي، إن فروغ دائمة البحث عن أب، وكل عدم الاستقرار الذي يرونه في حياتها، سببه هو البحث عن الأب ليعطف عليها» ولعل نظرة إلى عمر زوجها السابق برويز شابور، الذي كان يكبرها بخمس عشرة سنة أو حبيبها بعد ذلك إبراهيم كلستان، الذي كان يكبرها أيضا باثنتي عشرة سنة، دليل حسي على ما ذكرته أختها. كان والد فروغ ضابطا برتبة كولونيل، ورغم كونه مثقفا وقارئا نهِماً، إلا أنه نقل قسوة الحياة العسكرية إلى بيته، فعامل أولاده السبعة معاملة جنوده في الثكنة، رسمته فروغ بكلماتها بطريقة تختصر الكثير فتقول «كانت ملامح والدي مفعمة دوما بفظاظة رجولية عجيبة . كان مُرّا مُراً ، بارداً باردا وفظاً فظا. كان جنديا حقيقيا بملامح صارمة، أو على الأصح بقناع منفّر. كان دائما على هذه الحال».
وفي مجتمع بطريركي كالمجتمع الإيراني في النصف الثاني من القرن الماضي يضاف إلى هذه التربية العسكرية الصارمة تفضيل الذكور على الإناث في العائلة، بل ويوكِل إليهم صلاحياته عند غيابه، فأخوها الأكبر أمير مسعود كان ينوب عن والده في فرض القوانين والحرص على تطبيقها ومعاقبة مخالفها. وحين تتمرد فروغ على هذه المعاملة الجائرة تتعرض للتوبيخ وللإذلال، بل يصل الأمر بوالدها إلى العقاب الجسدي وقد وصفت إحدى صفعات والدها لها بطريقة موجعة «يد قوية وكبيرة، مثل جناح غراب أسود على وجهي يرفرف وقوة كانت تكسر حياتي وتكسر وجودي وشعوري العطِش وجمالي. ما زال جسدي يؤلمني.. لحظة غضب أبي لا تحتمل».
هذه المعاملة القاسية تركت فيها جرحا لا يندمل جعلها تصرخ بكل الغضب المحتقن في قلبها «لا أعرف لمن ألجأ كي أقتل الماضي». ولعل العامل الأساس في تكوين شخصيتها المتحدية القوية، إضافة إلى استعدادها الطبيعي، هو محاولاتها التي لا تتوقف لكسر السلطة الأبوية التي تراها عائقا أمام حريتها وانطلاقها. وما فاقم من الوضع ووسع هوة التفاهم بينها وبين والدها انكشاف علاقة عاطفية له، انتهت بزواج ثان وإهمالٍ لأولاده وهجرٍ لهم في فترة ما، فكانت ترى من ثقب الباب أمها باكية لا حول لها فتزداد نقمة على هذا الوالد الظالم. وقد كتبت مرة «أنا ساخطة على أبي ولن أصالحه أبداً، لأنه لا يحبني ولا يتوانى عن قوله الكلام خلف ظهري مبتذلاً، وأخذتُ تصميمي ألا أراه وإلى الآن لم أره وأتمنى ألا أجبر على رؤيته». وحتى حين تزوجت زاد الوضع سوءا، فحين نشرت قصيدتها الشهيرة الجريئة الخطيئة، أراد والدها قتلها كما ذكرت أختها، وحين تطلقت وهي لا تزال صبية ولم تجد مكانا تأوي إليه توسط لها الأقارب حتى رضي الأب أن يعطيها غرفة في بيته الكبير لكن بشروطه، حتى إنها اشتكت هذه التصرفات منه في رسالة أرسلتها له من أوروبا جاء فيها «لماذا لم أجرؤ على دعوة أصدقائي إلى البيت لأعرّفهم عليك؟ وإذا كانوا جيدين أو سيئين تنصحني». وهذه الرسالة تحديدا وهي تمتد على مساحة خمس صفحات كاملة لخصت فيها فروغ كل علاقتها بوالدها، وقالت له كل ما لم تجرؤ على قوله مواجهة، ختمتها بهذه الجملة الموجعة «الآن لا يمكنني القيام بعمل يرضيك، لكن قد يصل يوم تعطيني فيه الحق ولا تعود غاضبا علي وتكون معي طيّبا مثل بقية الأبناء».

الزوج العاقل حدّ الملل:

(لَيْسَ ذَنْبِي إِذَا كانَتِ الرُّوحُ طَيْرًا/تَعَافُ المُقَامَ بِبِرْكَتِكَ السَّاكِنَهْ/أَفْرَدَتْ لِلرِّيَاحِ الجَنَاحْ)*
التقت رغبة فروخ في مغادرة البيت الأبوي برغبة الوالد في تزويجهن صغيرات ليتخلص من ضغطهن، وهو المتزوج على أمهن بزوجة شابة، فتزوجت أختها الكبرى بوران وهي في الخامسة عشرة من عمرها وكذلك فعلت فروغ في السادسة عشرة من عمرها وهي لا تزال طالبة في الصف السابع، ولم يكن العريس سوى أحد أقاربهم يكبرها بضعف عمرها آنذاك، أحبته بقوة، إذ كان خشبة خلاصها من سلطة الأب ووجدت فيها تعويضا عما عانته من قسوة، كان برويز شابور موظفا بسيطا معدما لا يملك شيئا لكنها لم تكن تبالي سوى بالحب وحده، ورغم معارضة أمها وأقاربها إلا أنها كانت لا ترى سواه فقد كان عطوفا ذا روح مرحة وهو رسام الكاريكاتير الذي أصبح في ما بعد قلما صحافيا إيرانيا ساخرا. أحبته بشدة وكتبت له رسائل كثيرة نشرها عمران صلاحي رسّام الكاريكاتير الشهير بالتعاون مع ابنها الوحيد كامي تحت عنوان «أولى نبضات قلبي العاشق» وكانت الرسائل معزوفة حب لا تنتهي جاء في إحداها «صحيح أنَّك دائي، لكن صحيح أيضًا أنَّك دوائي، ولا أعرف ماذا أسمِّيك، أنا أحبُّك، أنا أحبُّك كطفل يحبُّ عناق أمِّه الدَّافئ أكثر من أيِّ شيء آخر، وإن عاقبته أمُّه بقسوة، فسوف يلجأ إلى حضنها مرَّة أُخرى». وتجلى هذا الحب أيضا في إهدائها ديوانها الأول «الأسيرة» وديوانها الثاني «جدار» إليه، ورغم أن فروغ تحدّت الجميع وتزوجت شابور، رغما عنهم ودعمها في بداية حياتها الأدبية، بل أحرجته كثيرا بقصائدها الجريئة إلى درجة أنه لم يغادر بيته أسبوعا كاملا بعد نشرها قصيدة الخطيئة، إلا أن الملل بدأ يتسرب إلى حياتها فقد كانا كما وصفتهما أختها «من عالمين مختلفين ففروغ عاطفية، قلقة مجنونة، وشابور إنسان منطقي متوازن ورجل عادي ككل الرجال لم يكن لديه منحى خاص في نظرته للحياة وبالطبع لم يستطع الاثنان أن يتقاربا» وكيف يمكن التوفيق بين شخص يذهب إلى عمله من الطريق نفسه لمدة ثلاثين سنة وامرأة لا تستقر على حال من القلق، ومع أن برويز أحبها بقوة، وكلما ذكرها بكى بشهادة ابنه كما أنه لم ينبس بكلمة بعد طلاقهما، بل وحتى بعد رحيلها المفجع في حادث السيارة، لم تستطع تحمل طباعه الأبوية وعقلانيته الزائدة، فتطلقت منه بعد ست سنوات من الزواج وهي في الحادية والعشرين من عمرها لها منه ولد في الرابعة، والحقيقة أنها بقيت تحبه «وقد قالت ذلك مرارا وكانت حتى بعد الانفصال عن شابور تستاء بشدة من أي كلمة نقد ضده تقال في غيابه». لكنها طير حر لا يرضى بأي قفص لو كان من ذهب. كما أنها في إحدى رسائلها إليه شرحت سبب هذا الحب فكتبت «عزيزي برويز.. تعرف لِمَ أحبّك؟ لأنّك الوحيد الذي لم تقف أمام أسئلتي حائراً، كلّما أسألك سؤالاً تردّ بإجابة منطقيّة تثير عجبي، ذكاؤك يثير عجبي باستمرار». وكم كانت أختها مصيبة حين وصّفت أثر طلاقهما عليهما فكتبت عن شابور «هو أكثر الرِّجال وفاء وإخلاصاً لحبيبته فروغ، ولعلَّ أهمَّ منجز في هذا الانفصال هو أنَّه صاغ شخصيَّة كلٍّ منهما». وهو توصيف صحيح لكن ثمن هذا الانفصال كانت له عواقب وخيمة بقيت تنزف من قلب فروغ، إلا أن رحيلها الكارثي المفاجئ، أكثر دراماتيكية حرمانها من رؤية وحيدها كامي إلى الأبد».
(*) من قصيدتي «أربع رسائل من فروغ».


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد