حين تبتلعُ الرأسمالية القيم الإنسانية

mainThumb

18-08-2024 02:36 AM

كرّست الكاتبة والسيناريست الأمريكية هيلين هانف حياتها في سبيل الكتابةِ، وفي رصيدها العشراتُ من المسرحيات والكتب المُوجّهة للناشئة والأطفال، وقد تفرّدت بأسلوبها الذي لا يخلو من الدعابة وخِفّة روح اللغة. إلا أن جُلّ إبداعاتِها أُتلِفت، وهو ما يجعل الحصول على مؤلفاتها اليوم تحدّيا بالنسبة للقُراء. يُعتبر كتاب 84 شارع تشرينغ كروس من بينِ الكتب/الرسائل التي لأجلها يُحبُّ كلّ قارئ عالمَ المكتبات. إنّ المكتبة مُتعةُ القُراء لكنها -للأسف- تظل ناقصة، بمعنى، المكتبة المثالية يوتوبيا مُفرّة دائمًا والقارئ هو راكِضٌ غير قنوعٍ بما يملكه، والهُوّة بينهما هي ما تستفزّ القارئَ لبلوغِها، لذا فإن هدف اليوتوبيا الأسمى على حد تعبير إدواردو غاليانو هو حثُّنا على التقدّم. أما هيلين هانف فقد كانت تقتفي أثرَ سعادةٍ عبر كتابة رسائل تعبُر المحيطاتِ، لتبني علاقاتٍ إنسانية مُلهمة عبر قوّة الكلمة.
في سنة 1949، بدأت هيلين سلسة من المُراسلات البريدية من نيويورك نحو متجرٍ لبيع الكتب المستعملة (ماركس وشركاه) في شارع تشرينغ كروس بلندن، وذلك بسبب نقصٍ في كُتبِ الأدب الإنجليزي بنيويورك وارتفاع أسعارِها آنذاك، وهو الأدبُ الذي كانت مُتيَّمة به وقارئة نَهمة له. بيْدَ أنها لم تُسافر إلى إنجلترا سابقًا، لكنها تستطيع التسكّع في شوارعها وجسورها والجلوس بمقاهيها عبر قراءة الأدب؛ الأدبُ كوسيلةٍ تُخرِجُ الإنسانَ من ضيق المكانِ نحو رحابةِ الوجودِ.

استمرّ تواصل هيلين هانف مع الورّاق فرانك دويل -تلاه انضمام أفراد من الأسرة والمكتبة- لما يربو عن عشرين سنة، لتُبلوِر الرسائل مع مرور الزمن ملامحَ الشخصياتِ في جوّ من الودّ والحميميّة، في حديث مُكثّفٍ حول مشاغلهم وأزماتهم وحيواتهم بل حتى طريقة صنع البودينغ! لقد كانت الرسائل تعبيرًا عن الذات ومرآة للروح، وهذا هو دورُ الأدب بتعبير فيرجينيا وولف، فقد اتّضح مع توالي السنين بأنّ ما يجمعهم يتجاوز بيع/شراء الكتب إلى صداقةٍ عظيمةٍ؛ بحيث تُخاطب هيلين فرانك دويل قائلةً "أنتَ الروح الحيّة الوحيدة التي تفهمُني". علاوة على ذلك، غطّت الرسائل عِدة فترات مهمّة كانت سائدة في تلك الحقبة التاريخية، من بينها الأزمة الغذائية في بريطانيا، لذا فقد داوَمت هيلين على إرسالِ صناديق من الطعام -بسخاءٍ- بشكل دوريّ (حتى وفاة فرانك دويل)، مُستمتعة -في المقابل- بقراءة طلباتِها النادِرة؛ أنتولوجيا عُشاق الكتب/ حكايات كانتربري/ حوارات قصيرة لأفلاطون/ أكسفورد للنثر الانجليزي/ الأعمال الكاملة لآنغلر/ قاموس كاسل... وغيرها. انطلاقا من هذا السياق، نحن في حاجةٍ اليوم إلى إعادة طقسَ كتابة الرسالة إلى نِصابه المُقدّس، حين كان يكتبها إنسانٌ إلى أخيه الإنسان بصدقٍ وعفوية. إنّ شرط الرسالة الأخير هو سبرُ أغوار الآخر، دون قيد، والبحث عن توليفةٍ للتواصل رغم الاختلافات بين المُرسِل والمُرسَل إليه. أمّا عن نمط الرسالة الشائع اليوم فهو مُبتذلٌ ومُنمّطٌ ومُختصرٌ وفارغُ من أي معنى، بحيث تُحاول الآليات والتقنيات الحديثة توهيمَنا بأنها مُجرد أدوات مُسهِّلة للكتابة والتواصل بشكلٍ سريع وفعال، والحقيقة أنها تُفرّغ إنسان العصر، رُويدا رُويدا، من إنسانيّته، والاستغناء عن ذكائه الاجتماعي والعاطفي، وذلك عبر الاستعانةِ ببرامج ذكاء اصطناعية تُكمِل الجُملة -المُفترضة- بواحدة جاهزةٍ "أوتوماتيكيّا"، بضغطة زرّ، بل وأكثر من ذلك؛ تقترح عليك كتابةَ الرسالة برمّتها حسب الثيمة وبأدقّ التفاصيل.

على الجانب الآخر، إنّ إغلاق المكتبات، لأي سببٍ كان، وتعويضها بمحلّاتٍ تجارية جشِعةٍ، لا يُعتبر بأي شكل من الأشكال تطوّرًا طبيعيًّا للحياة الإجتماعية، إنه أشبه مايكون باستهدافٍ أنيقٍ ومُهندَس للمباني التي من خلالها تُبنى القيم الإنسانية. لقد مسَخت الرأسماليةُ كل شيء، وحتى الأماكِن لم تسلَم من بَطشِها. إنّ هَمّ إنسان الرأسمالية لا يكترثُ سوى بإشباعِ رغباتِه على حسابِ قيمه، وهو ما يؤدي إلى خلق مجتمعات تفقِد عقلانيّتها، وهي ما سمّاها ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان" بمُجتمعات القمع؛ وهي على حد تعبيره "المجتمعات التي تضع هدفها أنه لا بد من أن يتغيّر شيء ما في الانسان لضمان انصياعِه التامّ والدائم". مكتبة (ماركس وشركاه) المكان الشاهدُ على واحدة من العلاقات الإنسانية والأدبية إلهامًا قد تحوّلت منذ سنواتٍ إلى محلّ ماكدونالد، حيث يَلتهمُ الناس وجباتهم في عجلةٍ من أمرهم، وفي الواقع كل شيء يحدث هناك بشكلٍ سريع وعابر، بما فيها العلاقات الإنسانية، فمن سيكتُب طلبًا لشراءِ قطعة هامبورغر من بلدٍ آخر يبعد آلاف الأميال؟ ومن سيحتفِظ بها لعقودٍ من الزمن دون أن تتعفّن؟ أما الحقيقة الوحيدة الأبديّة فهي هذه؛ وحدها الكُتب تظل طازجةً كلّما فتحتَها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد