خطاب الشهادة

mainThumb

17-08-2024 03:10 PM

يتعدّد مفهوم الخطاب عند الباحثين و لكنّهم يُجْمِعون على أنّ الخطابَ هو لغةٌ تندرِجُ في السياق الأجتماعيّ. أي تؤدّي معطيات السياق دوراً مؤثّراً في ضبطِ الخطاب عامّةً. و هذا يعني أنَّ عملية انتاجِ و استيعابِ الخطاب في أحدِ أهمّ وجوهِها ذات بعدٍ اجتماعيّ سياقيٍّ. كما يبْطِن هذا المفهوم من جِهةٍ أُخرى بعداً ايديولوجيّاً حيث يوجّهُ منتِجُ الخطابِ معطيات السياق كلّها عبر تراكيبٍ و مضامينٍ و الياتٍ خطابيّةٍ نحو رؤيَةٍ محدّدةٍ. ينصَبُّ همُّ المُحلّلُ حسبَ هذا التصوّر على فهمِ الأشتباكِ بين البعدين -السياقيّ الأجتماعيّ و البعد الأيديولوجيّ- على جغرافيا الخطاب.

انَّ ردّةَ الفعلِ الخَطابيّةِ التي تصْدُر منَ الشّخصِ عند لحظةِ تلقّيْهِ خبَرَ وفاةِ شخصٍ عزيزٍ عليهِ تُعَدُّ أحْدَى الفضاءات الخطابيّة الهَامّةِ التي تجسّدُ تلكَ العلاقةِ الجدليّة بين الخطاب و سياقهِ الأجتماعي. فهي لحظةٌ عَفويّةٌ صادِمةٌ؛ تختلطُ بها المَشاعر الشّخصيّةِ و الرؤى الذاتيّة مع متغيراتِ الموقف. و تبرز هذه العلاقة بشكلٍ أكبر حينما يصْدُرُ هكذا خطاب عن قادةِ الرّأي أو يتعلَّقُ بهم؛ و خاصةً في وقت الأحداثِ السّاخنةِ. و هذا ما تجلّى في خطابات التعزية التي أُنتِجَتْ على اثْرِ اغتيالِ عددٍ من عائلةِ هنية الغزّاويةِ بحيث شكّلتْ بذاتِها موضوعاً خصْبَاً للتحليلِ النَقديّ. و تشملُ هذه الخطابات الأتي: (1) تعزية اسماعيل هنية بثلاثةٍ من أبناءِه و بعضَ أحفادِه (2) تعزية الزوجة بزوجها حازم هنية (3) تعزية الأبنة سارة بأبيْها اسماعيل هنية (4) تعزية زوجة الأبن ايناس بعمِّها اسماعيل هنية (5) تعزية الزوجة أُم العبد بزوجها اسماعيل هنية. و قدْ جُمِعِتْ هذه الخطابات من الوسائل الأخباريّة الجماهيريّة كالجزيرة ما يؤكّد مصْداقيْتَها و دقّتَها.

رغم الأختلافِ حول ملابَساتِ السياقِ بين عمومِ الباحثين، تشيرُ الوِجْهةُ العامّةُ الى أنّ سياقَ الموقفِ الأجتماعيّ يشتملُ على أطارٍ عامٍّ؛ يتألفُ من عدّةِ فئاتٍ أساسيّةٍ، هي: (1) زمان و مكان الموقف (2) المشاركون في الموقف- هُويِّاتهم و أدوارهم و علاقاتهم و أهدافهم و معرفتهم و ايديولوجيتهم (3) الفعل الأجتماعي الجاري.

تقف خلْفَ حوادث الأغتيال المُشار اليها معطيات سياقيّةٌ كثيفةٌ تشكّلُ معاً بيئةً حاضِنةً لها؛ تعطي فهماً أشملاً و أعمقاً لهذه الأغتيالات. تتلخّص هذه المعطيات بالأتي:
أ) من ناحيةٍ تاريخيّةٍ عامّةٍ، احتلَّ الصهاينةُ منذ عقودٍ أرضَ فلسطين و أقاموا دولةً لليهود بدعمِ القوى الغربية الكُبرى. و رافَق هذا الأحتلال أعمالَ عنفٍ مثل تهجير السُكَّان و قتلِهِم و تدميرِ منازلهِم و مؤسساتهم و غيرها. ولّدَ الأحتلالُ بالمقابل مقاومةً عنيفةً، قادَها أهل فلسطين بشكلٍ خاصٍ ضدَّ قوات الأحتلال و ممارساتها من أجل تحرير الأرض و اقامة دولة فلسطينية. جرتْ على طوال هذه الفترة معاركٌ داميةٌ و انتفاضات غاضِبةٌ و مفاوضات مريرةٌ بدافعٍ دينيّ أو وجوديّ وطنيّ أو حقوقيٍّ أنسانيٍّ أو كلّها معاً.

ب) في سياقٍ أخصٍّ، تولّتْ حركةُ حماس -التي تناهِضُ كيان الأحتلال عسكرياً- ادارةَ قطاع غزّة بعد نجاحِها بالانتخابات منذ عام 2006م. و قامَتْ قواتُ الاحتلال بحِصارِ قطاع غزّة برّاً و بحراً و جوّاً منذُ ذلك الحِيْن، و شنَّتْ سلسلةَ معاركٍ على غزّة و أهلها، استخدمَتْ بها أسلحةً محرّمةً دوليّاً، و اغتالتْ عدداً من قيادات حماس، و سعتْ و ما تزالُ بكلّ قوّةٍ الى شَلِّ قدراتِ حماسِ كليّاً. ردّتْ حركةُ حماس و فصائلُ المقاومةِ الأخرى في غزّة على ممارسات العدو بضرباتٍ صاروخيّةٍ موجِعَةٍ، و أسرِتْ عدداً من جنود الأحتلالِ و بادلتْهُم بأسرى فلسطينيين.

ت) ضمْنَ ذاتِ السياقِ، شنّتْ فصائلُ المقاومةِ في غزّة هجوماً موجِعاً على غلاف عزة يوم السابع من شهر اكتوبر لعام 2023م في عمليةٍ أَطلَقَتْ عليها أسمَ طوفان الأقصى. اخترقتْ فيها قواتُ المقاومةِ الرقابةَ الأمنيةَ الشديدةَ، و قتلتْ عدداً من جنودِ الأحتلال، و حصَلَتْ على معلوماتٍ استخباريّتةٍ خطيرةٍ، و أسرَتْ أكثرَ من مئةِ مستوطنٍ. و هذا ما قدْ هشَّمَ هيبةَ جيشَ الاحتلال و جَرحَ عنجهيّتَهُ؛ فقامَ بهجومٍ عسكريٍّ عنيفٍ على غزّة و أهلِها بهدفِ تحريرِ أسْراهُ و تدميرِ حماس. قتلَ على مدارِ شهورٍ باسْنادٍ امريكي-اوروبيّ و صمتٍ عربيٍّ الآلافَ من أهلِ غزّة و هدَّمَ مؤسسات و منازلاً كثيرةً، و هجَّر النّاسَ من مناطِقِ سكَنِهِم، و منعَ عنهُم الغذاءَ و الماءَ و الدواءَ. ساءتْ سمعةُ دولةِ الأحتلال عالمياً حتى أنّها وقفَتْ أمام المحاكم الدوليّة بتهمةِ الأبادة الجماعيّة، و خسِرتْ كثيراً من جنودِها و عَتادِها، و تراجعتْ مؤشراتها الأقتصادية و السياحية، و زادَتْ حدّةُ الفرقةِ الأجتماعيّة دون أنْ تنجحَ في سحْقِ المقاومةِ أو تحريرِ أسرَاها. لجأتْ دولةُ الأحتلال عندئذٍ الى سياسيةِ الأغتيالِ لانعاشِ معنويات جنودِها و ارهابِ المقاومةِ. فاغتَالتْ من ضمن هذه العمليات ثلاثةً من ابناءِ اسماعيل هنية و بعضَ أحفادِه ثمّ اغتالتْ بعدها بمدّةٍ قصيرةٍ اسماعيل هنية نفسَهُ في ايران التي تمثّلُ قاعدةَ محورِ المقاومةِ ضدَّ كيان الأحتلال.

ث) يشْغَلُ اسماعيل هنية أعلى منصباً قياديّاً و هو؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ما يجعلُ قتْلَهُ في ايران تحديداً مكْسَبَاً ثميناً لدى العدو. تربّى اسماعيل هنية و ابناءَه في بيئةٍ دينيةٍ اسلاميّةٍ. حيث غرسَتْ هذه البيئة فيْهِمْ عقيدَةَ الأيمانِ بالله و عبادتَه وحدَه و تنفيذ أوامره و تجنّب نواهيه و منها، الجهاد الواجِبُ في سبيل الله ضدَّ المُحْتلِّ لأرضِ المسلمين الى أنْ يتحقّقَ النّصرُ أو الشَّهادةَ.

ج) تقوم حركةُ حماس -التي نشأَ ضمنَها هنية و عائلتُهُ- على الثوابتِ و المُنْطلقاتِ الأسلاميّةِ التي تُسْتَنْبَطُ من مصدَرين أساسيين هما، القرآن الكريم و السنّة النبويّة الصّحيحة. و تنظرُ حركةُ حماس -منذ نشأَتِها- الى دولةِ الأحتلالِ على أنّها كيانٌ غير شرعيّ دينياً و قانونيّاً و وطنيّاً ما يوجِبُ مواجهتَهُ بالكِفَاحِ المُسَلَّحِ رغمَ ما يَملِكُهُ هذا الكيان من قوةٍ عسكريّةٍ دعمٍ دوليٍّ.

تتناول خطابات التعزيةِ الخمسَةِ عدّةَ قضايا مركزيّة، يمكنُ أنْ نوجِزها بالأتي:
أولاً، تطْغَى بشكلٍ كبيرٍ على الخطابات الخمسةِ القضايا ذات الأبعادِ الدينيّةِ الأسلاميّةِ، و هي: [أ] الأيمان بالله و التسليم لقدَرهِ مثل قولهم: "لا نقول الا ما يرضي ربنا". [ب] الايمان بحياةٍ طيّبةٍ للشهيدِ في الأخرة كقولهم: "سلّم على الرسول، سلّم على الشهداء" و "عيدك في الجنة" و "الشهداء احياء". [ث] الزُّهد بالدنيا كقولهم: "دنيا فانية". [ج] الأفتخار بالموت على يدِ الأعداءِ مثل: "أشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمنا به باستشهاد ابنائي..." و "أنا أم شهيدات و زوجة شهيد" و"يا محلا موتك يابا". [ح] الثبات و طلب الثواب مثلَ قولهم: "احنا من الصابرين" و "اللهم أجِرنا في مصيبَتِنا، و اخلفنا خيراً منها". [خ] الدعاء للشهيد كقولهم: "ربنا يسهل عليهم" و "الله يرضى عليك، و يحنن عليك، و يسهل عليك". تنسجمُ هذه المعطيات الخطابيّة مع المعطيات السياقيّة الخاصّة بالمشاركين في الموقف- أفراد عائلة هنيّة، حركة حماس، عموم أهل غزّة. اذ أنّ التربية الأيمانيّة هي النموذجُ الذهنيُّ الرئيس الذي يُهيمِنُ على أفكارِهم و يضبِطُ أفعالهَم. فلا غرابة أن يسلّمَوا كلّهم لقضاءِ الله في موقف وداعِ الحبيبِ و يحتَسِبوا الأجر على الله تعالى خاصّةً انّهم في موضعِ القيادةِ.

ثانياً، تعُجُّ الخطابات بالقضايا ذات العلاقة بالأُمة و المصير العام. و تضمّ هذه القضايا الأتي: [أ] الألم طريق المستقبل كقولهم: "بهذه الالام و الدماء نصنع الآمال و المستقبل و الحرية لشعبنا و لقضيتنا و لأمتنا". [ب] الثبات و العزيمة مثل قولهم: انّ هذه الدماء لن تزيدنا الا ثباتاً على مبادئنا و تمسكنا بأرضنا" و "الاحتلال يعتقد أنه باستهداف ابناء القادة سيكسر عزيمة شعبنا". تدلُّ هذه المضامين الخطابيّة على ثبات العقيدة في نفوس عائلة هنيّة و عموم المقاومين. فهم يؤمنوا بربّهم و عدالة قضيتهم، و عازمون على دحرِ العدو الذي يهدّدوا وجودهم و يسعى الى تهجيرهم منذ عقود.

ثالثاً، برزتْ بشكلٍ لافتٍ مضامين خطابيّة تُثني على الشهيد، و من ذلك قولهم: "يا حافظ الكتاب" و "أنعى رجلاً تضج الأرضُ و السماءُ بطيب ذكرِه، رجلاً غنياً عن التعريف" و "الشهيد البطل القائد العظيم الجليل" و "انت خليتنا حديد، الصبر و العزم كلّه اخذناه منك" و "يا قائد الأمة". قاومَ اسماعيل هنية منذ صغرِهِ العدو برفقةِ القادة الكبار كأحمد ياسين و الرنتيسي، و كبِرَ و هو يقاوم العدو ببسالةٍ حتى صار في أعلى درجة قياديّة. فمن الطبيعي، أن يكون محلّ افتخارٍ لأُسرتِه و المقاومين أيضاً و يكون قدوةً لهم في الثبات و الصبر و العمل بهمّة.

رابعاً، تظهر القضايا الأسريّة و مشاعر الحزن في خطابات التعزية خاصةً على لسان الأبنةِ سارة. فقدْ وردَ: "انكسر ضهري يابا، وين رحت و سبْت حبيبة قلبك سارة، والله يابا انك تعبت، طلبتها و نلتها يا حبيبي" و "أنعي عمي و حبيبي و أبي و تاج رأسي و قرّة عيني العم ابو العبد هنية" و "يا حبيبي، حبيبي في الدنيا و حبيبي في الأخرة، انت سندي في الدنيا و الأخرة". يضَلُّ الموتُ فاجِعةً مؤلمةً عند البَشَر رغمّ علمِهِم بأنْ لا مفرّ مِنه. اذ أنّ رحيْلُ الأنسانِ عن الدنيا دون رجعةٍ هو بحدّ ذاتِهِ مصيبةٌ خاصّةً لأهلِهِ و جيرانِه و أصدقاءِهِ تستدعي منهُم خطابات تعزية تعبّر عن ألمِهِم مع الأقرار بتباين الردودُ الخطابيّة للأشخاص عنْد لحظةِ تلقّيْهِم خبَرَ الوفاةِ. و كلّما كانت العلاقة بين شخصين أكثر قُرباً و حميميةً، يكون ألمُ فقْدِ أحدهما على الأخر أكبر و يستدعي لحظة تلقّيه خبرَ الوفاة خطاباً حزيناً. و لكن لم يحصل هذا التوقّعِ حقيقةً في خطابات عائلة هنيّة في موقف الموت. فقد أظهروا صبراً خطابيّاً عالياً على فقْدِ الأحبّاب. اذ ظهرتْ مضامين الحُزن و العلاقات العائليّة أقل نسبةً من غيرها، و لم تأتي هذه القضايا في صدارة الخطابات بل تبَدَّتْ ضمن سياقٍ دينيٍّ و ثوريٍّ و وطنيٍّ.

خامساً، تُضمِرُ الخطابات دائماً قضايا لا يتمُّ الأبانة عنها صراحةً لأسبابٍ متعدّدةٍ. اذ تبطِنُ خطابات التعزيةِ الخمسةِ مثلاً قضيةَ الأستقطاب على أساسِ ثنائيّةِ "نحن-هم". فهي ضمنيّاً تُخاطبُ المقاومين في غزّة و في كلِّ مكان من العالم بحميميّةٍ، و تحُثُّهم على التمسُّكِ بالعقيدة التي توجِّهُهُم الى التسليمِ لله وحده، و الكفاح المُسلّحِ ضدّ عدوٍّ محتلاٍّ، و الصبرِ على الألم، و طلبِ الشّهادة بكلِّ ثقةٍ. و تقنعُ هذه الخطابات من جهةٍ ثانيةٍ الجماهيرَ العربيّةِ و الأسلاميّةِ و العالميّةِ بعدالةِ قضيّتِهِم و الأصطفافِ الى جانِبِهم في هذه المعاركِ الطّاحِنَةِ. كما تبعثُ أيضاً رسائلاً للعدو بفشَلِ كلِّ محاولاتِهم لزعزعةِ ثباتِ موقفِهِم و كسْرِ ارادتِهِم ما يُسَاهِمُ في أضْعَاف العدوِّ و ارهابِهِ.

يتبيّنُ -ممّا سبقَ- الدَورُ الأساسيُّ الذي لعِبَتْهُ المعطيات التاريخيّة و الأجتماعيّة في تشكيلِ خطاباتِ التعزيةِ لعائلةِ هنيّة في موقفِ الشهادةِ. فقَدْ شكّل هذا السياق العامْ للأحداثِ اطاراً ذهنيّاً ضاغِطَاً على مضمون الخطابات؛ أفصَحَ عنْها عبر عدّةِ قضايا خطابيّة رئيسيّة، و أَضمَرَ قضايا أًخرى. و تبيّنَ البعدُ الوظيفيّ لكلِّ تلك القضايا في دعم المقاومةِ و ارهاب العدو المُحتلِّ. في الختامِ، شكّلَ الهَمُّ العامُ في نفوسِ عائلةِ هنيّة في بيئةٍ غزيّةٍ قوّةً ضاغِطةً أكبْرُ مِنْ قوّةِ فقْدانِ الحَبيْبِ في خطاباتِهِم. فقَدْ انسَجَموا في خطاباتِهم مع تربِيَتهم و بيئتهم الأجتماعيّة و ظروفهم السياسيّة و العسكريّة بشكلٍ كبيرٍ ما يؤكّدُ صدْقَهُم. و تحرّروا من الخَشيَةِ مِنْ أنيابِ الموتِ و المدافعِ و الواقعِ الثقيلِ و السُّلطات القويّةِ، و زرعوا الحرّيةَ في تربةِ خطاباتِهِم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد