رحلة بهدف… وسفر للاستهداف

mainThumb

07-08-2024 12:15 AM

المسافران رجلان: يعود أحدهما بالجمل وما حمل، وآخر يعود بخفي حنين. هذا ما وجدتني أستنتجه من التطورات المتلاحقة والمتسابقة. ظل نتنياهو يلوح بالسفر إلى أمريكا ليخطب أمام الكونغرس رغم المعارضة الداخلية الشديدة. وذهب أخيرا ليحصد التصفيقات التي لا حد لها. وسافر هنية لحضور تنصيب رئيس إيران فكان أن عاد إلى الدوحة، على آلة حدباء، بعد أن صلوا عليه صلاة الجنازة؟ منطقان متضادان.
ألم يكن الأجدى أن يسافر مسؤول غير هنية إلى طهران في ظروف عصيبة كهذه؟ ماذا كان يريد هنية جَنْيه من رحلته إلى طهران؟ التأكيد ما يقال عن تبعية «حماس» لـ«محور الشر»؟ أم للحصول على المزيد من الدعم؟ ولماذا كانت تلك النهاية المأساوية؟ أين الحراسة المشددة، وممارسة التمويه على إقامته وتنقلاته؟ كيف تزرع في غرفته عبوة قبل شهرين؟ لماذا تفلح الصهيونية في اصطياد رموز المقاومة في ضاحية جنوب بيروت، وفي طهران؟ لا مراء في أن العمل الاستخباراتي الصهيوني ـ الأمريكي، وتوظيف عملاء من الداخل وراء هذه الإنجازات. لكن ضعف المقاومة في مواجهة هذه الأساليب والوعي بها والعمل على عدم نجاحها وراء تلك الإنجازات المخزية.
يحق لنتنياهو أن يوهم نفسه، وإسرائيل، بانتصار موقفه من الحرب، وأن الحل العسكري هو الحل. واجه المعارضة الداخلية، والرأي العالمي، وعائلات المحتجزين، وكل الدعوات إلى وقف الحرب، والدخول في صفقة. وأصر بدعم بن غفير وسموتريتش على التحدي السافر الذي يقضي بألا صفقة إلا بشروطه التي تؤكد انتصار إسرائيل الحتمي، وتحقيق الأهداف الكبرى التي حددها في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول. ظل يتهرب من المفاوضات، وحتى عندما أعلنت أمريكا عن مقترح إسرائيلي للهدنة، وقبلت بها «حماس» ظل يراوغ، وبات للعيان وكأن طلب الهدنة أمريكي لا إسرائيلي. وهو يتوجه إلى أمريكا زعم أنه بعث مفاوضيه إلى القاهرة وروما. ممارسة الكذب والافتراء، ومواصلة التقتيل اليومي في غزة، وامتصاص الغضب الداخلي، والتخطيط للاغتيالات واستهداف رموز المقاومة هو شعاره الأساس للهروب من أي محاكمة، ومن إفلاسه السياسي والعسكري. وكان استغلال مجدل شمس مناسبة لتحميل «حزب الله» المسؤولية، رغم نفي الحزب كل ما نسب إليه بخصوصها، وكان التعبير العالمي استنفارا لقتل اثني عشر طفلا وشابا، في الوقت الذي يُقتَّل فيه يوميا عشرات الأطفال في غزة. وجاء استهداف فؤاد شكر متزامنا مع اغتيال هنية، وبعد ذلك بقليل تم الإعلان عن مقتل محمد الضيف. وفي كل ذلك ادعاءات باطلة بانتصار كاذب.
لم تنجح إسرائيل منذ أكثر من ثلاثمئة يوم إلا في تأكيد سقوط مختلف ادعاءاتها وأساطيرها، أمام بسالة المقاومة وقدرة شعبها على الصمود. لقد نجحت فعلا في التدمير والتطهير العرقي، وهي بكل ذلك أعطت للقضية الفلسطينية حضورا قويا على المستوى العالمي، وبينت أن قضية وراءها شعب ومقاومة لا يمكنها أن تموت، رغم ضعف الإمكانيات، واستحالة المقارنة بين مغتصب الأرض وصاحبها.
إن لجوء الصهيونية إلى استغلال الوسائل الاستخباراتية، وتوظيف العملاء بقصد ممارسة عمليات اغتيال رموز المقاومة، ونجاحها في ذلك يحمل في طياته أبعادا متعددة. فهو من جهة، يؤكد أن لها باعا تاريخيا في ممارسة الاغتيالات، ومن جهة ثانية، يجعلها ذلك تتصور أنها تحقق أهدافها وانتصاراتها الوهمية، ويتبجح نتنياهو، أمام معارضيه وعائلات المحتجزين، بأنه حقق منجزات مهمة في القضاء على رؤوس الفتنة في «حماس» و«حزب الله». وكل ذلك، من جهة ثالثة، لا يدل في واقع الأمر إلا على عمل جبان يسعى لتعويض الخسائر التي يتكبدها في ساحة المعركة. لقد اغتيل مؤسس الحركة أحمد ياسين منذ عشرين عاما. فهل انتهت حركة المقاومة، أم أن وضعها اليوم يجعلها أقوى، وأقدر على مواجهة الجيش الصهيوني وحلفائه وداعميه أكثر من أي وقت مضى؟ وأن اغتيالات أي مؤسس أو زعيم أو قائد لا يعني نهاية المقاومة. وهذا العامل لا يمكن أن يفهمه الصهاينة وهم يشخصون القضية الفلسطينية في حركة ما، أو شخصية معينة، وأن قضاءهم عليها يعني نهاية القضية. إن لعبة تشخيص القضايا في أفراد مارستها أمريكا في العراق وأفغانستان. ورغم نجاحها في القضاء على «المُشخَّصين» يكشف الزمن أن ذلك لم يؤد إلا إلى إعادة انتخاب رئيس يقدمها على أنها إنجازات تاريخية، لكن الزمن ظل كفيلا بأن القضية لم تمت نهائيا، وستظل قابلة للانبثاق كرة أخرى، وبعنف أشد.
إن استهداف هنية في طهران إدانة للخونة والعملاء، واستهزاء بالقوانين الدولية، وجر المنطقة إلى حرب شاملة. هذا ما مارسته أمريكا ضد العراق، وهي تتحدث عن أسئلة الدمار الشامل. وها هو الحديث بات محور الأحاديث عن الحرب الشاملة. وبرزت الحقيقة عارية، فلعبة الخلاف بين أمريكا وإسرائيل تنكشف بجلاء: تحريك اثنتي عشرة سفينة ومدمرات، وآلاف الجنود في البحار الثلاثة تحسبا لأي رد إيراني. وبات الترقب والهلع سيد الموقف في إسرائيل. وها هي الرحلات المكوكية لثني إيران عن أي رد «لا يبقي، ولا يذر»؟
عاد المسافر بخفي حنين مضرجيّن بالدم، وعاد الآخر مستغيثا ببوارج حربية، فعلى من تدور الدائرة؟

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد