برونتي وشبيهاتها… رواية واحدة تكفي!

mainThumb

05-08-2024 11:10 PM

هل على الروائي أن يُراكم منجزا روائيا كاملا طوال عمره الكتابي ليتكرس مبدعا ويفتكّ اعتراف النقاد وإعجاب القراء؟ أم يمكنه بعمل واحد متقن أن يختصر درب الكتابة المضني؟ راودني هذا السؤال عندما كتبت مقال الأسبوع الماضي «دانيال ستيل .. العمر مجرد رواية جديدة» فهذه الروائية الشهيرة كان عليها أن تكتب أكثر من مئتي رواية لتتوج في قائمة الكتاب الأكثر مبيعا في العالم، ومثلها فعلت نورا روبرتس بكتابة مئتي رواية، وقبلهما كتبت باربارا كارتلند سبعمئة رواية في إنجاز أدبي يصعب تصوره/ ربما لم يضاهها فيه إلا جورج سيمينون.
لكن في الوجه الآخر للصورة نجد روائيين مكثرين، أو مقلّين انبنى مجدهم الأدبي على رواية واحدة لا يكاد يذكرون إلا بها، ففي الأدب العالمي نجد أن الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان لم تستطع أن تخرج من عباءة روايتها الأولى «صباح الخير أيها الحزن» وكذلك الروائي الروسي الأمريكي نابوكوف بقي أسير لوليتا. ولا يختلف الأمر في عالمنا العربي فمن منّا لم يربط بين الطيب صالح و»موسم الهجرة إلى الشمال» أو محمد شكري وخبزه الحافي/ أو يحيى حقي و»قنديل أم هاشم» إلى درجة أن صرح مرة أنه أصبح ينزعج من هذا الارتباط الذي لا خلاص منه، بل هناك من لم يكتب طيلة حياته سوى رواية واحدة لا غير، لأسباب متعددة، ومع هذا ضمنت لاسمه الخلود الأدبي والجوائز الرفيعة ومنها جائزة نوبل المرموقة، وأشهر مثال على هذا الكاتب الروسي بوريس باسترناك، الذي نال سنة 1958 جائزة نوبل على روايته الدكتور جيفاغو.
وإذا كانت هذه النماذج من أصحاب الرواية الواحدة التي أدخلتهم التاريخ متوفرة في الأدب الغربي نذكر منها رواية «صورة دوريان غراي» للمسرحي الإيرلندي أوسكار وايلد، أو رائعة سالينجر «الحارس في حقل الشوفان» التي انسحب بعدها من الحياة العامة، واعتزل الناس، إلا أنها تكاد تنعدم في الأدب العربي، إذ يندر أن تصنع روايةٌ واحدة فقط مجدَ كاتب، ولعل الاستثناء الوحيد مع فارق كبير يمنع المقارنة هو الروائي العراقي صموئيل شمعون وروايته اليتيمة «عراقي في باريس» بلغتها الساخرة ووصفها الدقيق لجيل عربي أضاعته الأيديولوجيات.
غير أن ظاهرة لفتتني هي أن نسبة الروائيات المشهورات من أصحاب الرواية الواحدة تتجاوز نسبة الروائيين، وسأتناول أربعا منهن تجاوزت مبيعات رواياتهن المئتي مليون نسخة وترجمت هذه الروايات إلى أغلب اللغات الحية (تجاوزت خمسين لغة). وبعضها اقتبست منها أفلام عديدة، وأخرى قامت حولها صناعة كاملة من أدوات مدرسية وثياب ودمى وتذكارات.

فقبل قرابة المئة وثمانين سنة نشرت إميلي الأخت الوسطى للأخوات برونتي أيقونات الأدب الإنكليزي روايتها الوحيدة «مرتفعات ويذرنغ» التي تعد واحدة من أهم الروايات الكلاسيكية في العالم. رغم أن مؤلفتها لم تكن متأكدة من أنها ستنال القبول فوقّعتها باسم ذكوري هو «إيلي بيل». وكانت محقة في توقعها فقد هاجمها النقاد الفيكتوريون المتحجرون، شكلا ومضمونا، إذ لم تعجبهم حبكة الرواية المعقدة وتعدد الرواة الذي أربك بعض القراء لعدم تعوّدهم عليه، إضافة إلى جرأة الرواية في تناولها الحبّ العاطفي الشديد والتوترات الطبقية وبعض ما كان يُرى في ذلك الزمن تجاوزا أخلاقيا، إلى درجة أن طالبت بعض المجلات الصادرة آنذاك بإحراق الرواية، التي دفعت صاحبتها مبلغا من المال لكي تحصل على موافقة نشرها، ولعل الناشرين المعاصرين تعلموا هذا التصرف منها. وكم تعرضت رواية إميلي برونتي لمقارنات ظالمة مع رواية «جان إير» لأختها الكبرى شارلوت. لكن الزمن أنصف هذه المبدعة التي ماتت بالسل في الثلاثين من عمرها فأصبحت روايتها «أهمّ رواية في القرنِ العشرين من روايات القرن التّاسع عشر» حسب دليل «لونغمان» للأدب الفيكتوري.

وبعد رواية «مرتفعات ويذرنغ» بثلاثين سنة بتمامها ظهرت رواية وحيدة أخرى لكاتبة بريطانية بيع منها خمسون مليون نسخة. لكن كاتبتها أيضا لم تستمتع بهذا المجد الأدبي والثروة الناجمة عنه إلا قليلا، فقد توفّيت آنا سويل بعد خمسة أشهر فقط من نشر كتابها «الجَمال الأسود». أصيبت المؤلفة وهي في الرابعة عشر من عمرها بإعاقة دائمة نتيجة سقوطها في يوم ماطر، فحرمتها المعالجة البدائية آنذاك من قدرتها على المشي، فكان اعتمادُها على العربات التي تجرها الخيول في تنقلاتها هو بذرةَ الرواية التي اختمرت طويلا في نفسها، وهي ترى المعاملة السيئة لهذه الحيوانات الرشيقة الخدومة، مِن قطع ذيولها وإرهاقها بالعمل واستخدام اللجام الكابح الذي يؤلم رقابها ويصعّب عليها التنفس، فكتبت وهي على فراش المرض من تجاربها وملاحظاتها روايةً على لسان حصان أسود جميل له غرّة، تتبّعت حياته وتنقله بين المالكين، أعطت فيها دروسا غير مباشرة في كيفية معاملة الخيول بلطف، ودافعت عن حقوق الخيول في المعاملة الكريمة بحجة وقوة جعلت بعض الممارسات الظالمة تختفي بعد روايتها التي لا تزال إلى يومنا هذا من أكثر الروايات مقروئية في العالم من الأطفال والكبار على السواء.

ومثل آنا سويل كان المكوث في البيت نتيجة كسر في الكاحل السبب الذي جعل الكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل تكتب رائعتها «ذهب مع الريح» هذا العمل الضخم الذي يتجاوز الألف صفحة لم يُكتب بسهولة فقد كتبتِ الروائية تسع مسودات كاملة له على آلة كاتبة موضوعة على طاولة خياطة قديمة، على امتداد عشر سنوات وهي تكتب بانقطاع، مخفية الأمر عن الأصدقاء والزوار على السواء، تكتب وتخفي أوراقها في خزانة لا يطلع عليها سوى زوجها الذي كان يساعدها في طباعة الأوراق أحيانا وتنظيم العمل، ولولا اطلاع أحد الناشرين على روايتها المخطوطة، وإلحاحه على طبعها لحرمنا من نص روائي مذهل. وقد أعجب القراء بروايتها عند صدورها، حيث باعت في يوم واحد خمسين ألف نسخة. وبعد ربع قرن من صدور الرواية التي حازت على جائزة البوليتزر سنة 1937 بعد عام من صدورها فقط، أصدرت الحكومة الامريكية طابعا بريديا تذكاريا عنها. وأُنجز من الرواية فيلم سنة 1939 يعتبر أحد أيقونات السينما العالمية، حيث نال ثماني جوائز أوسكار، وبقي لسنوات طويلة جدا أعلى الأفلام إيراداً في تاريخ السينما الأمريكية، وإن تحولت النظرة إليه من الإيجاب إلى السلب لتصويره العبيد راضين بعبوديتهم. ورغم الانتقاد تبقى رواية مارغريت ميتشل الوحيدة قطعة أدبية خالدة.

وإذا كانت الوفاة المبكرة لبرونتي والوفاة السريعة لآنا سويل بعد إنهاء روايتها حالتا دون كتابة روايات أخرى، فميتشل توفيت في الثامنة والأربعين من عمرها، وقد أشيع أنها كانت بصدد كتابة رواية ثانية. فإن الروائية الرابعة التي نكتب عنها توقفت بقصد عن كتاب رواية ثانية قائلة: «لقد قلتُ ما كان عليّ أن أقولَهُ». ورغم أن هاربر لي كتبت روايتها نتيجة تحدٍّ من أحد الأصدقاء، إن كانت تستطيع كتابة رواية في سنة كاملة، وبانتهاء السنة ولدت «أن تقتل عصفورا محاكيا» بيع منها عام صدورها نصف مليون نسخة، وحصدت جائزة البوليتزر، ونال الفيلم المقتبس عنها ثلاثة أوسكارات. وإلى الآن بيع من الرواية 40 مليون نسخة وترجمت إلى 40 لغة وقُررت في كلّ مدارس أمريكا، حتى قيل عن هذه الرواية إنها أكثر كتاب غيّر حياة الأمريكيين بعد الإنجيل. ومع هذا المجد كله اعتزلت هاربر لي عالم الشهرة والمجد وقضت نصف قرن في قريتها الهادئة مطبّقة مقولة «قل كلمتك وامش».
لكل واحدة من الروائيات الأربع دوافعها لعدم مواصلة مسيرتها الروائية، لكن كل واحدة منهن أيضا اختصرت درب الإبداع برواية واحدة كتبت أسمها في مرتبة واحدة مع من سخّرْن أو سخّروا أنفسهم للكتابة الروائية. فالجودة لم تُقس يوما بالكثرة لأن رواية واحدة جيدة قد تكفي!

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد