استشراق فلسطين وصَهْيَنة المناخ

mainThumb

05-08-2024 09:42 PM

لا حدود، أغلب الظنّ، للمقاربات الاستشراقية حول فلسطين، شعباً وأرضاً ومجتمعاً وطبيعة وتاريخاً وسياسة؛ خلال أزمنة الماضي السحيقة أوّلاً، ثمّ لاحقاً في العقود التي واكبت وأعقبت المشروع الصهيوني الاستعماري والاستيطاني على امتداد القرن العشرين، وحتى الساعة. صحيح، بالطبع، أنّ موقع فلسطين في الديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، أضاف العديد من العناصر الباعثة على الاهتمام بهذه البقعة الجغرافية؛ ولكن ليس أقلّ صحة أنّ التأويلات التوراتية للتاريخ قسرت الكثير من الأبحاث صوب استشراق أحادي النظرة، فاضح الانحياز، لا يجد حرجاً في تشويه أشدّ الحقائق رسوخاً.
و«جديد تحت الشمس: اللقاءات الصهيونية المبكرة مع المناخ في فلسطين»، كتاب نيتا كوهن الباحثة في كلية كرايست شرش، أوكسفورد، الذي صدر بالإنكليزية مؤخراً ضمن منشورات جامعة كاليفورنيا؛ يتناول جانباً شبه مجهول، والكثير منه يظلّ خافياً في الواقع، من الأنشطة الصهيونية ذات الصلة بصَهْيَنة أبحاث المناخ في فلسطين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى نهاية الانتداب البريطاني. للمرء أن يضرب صفحاً عن توضيح تسوقه المؤلفة منذ السطور الأولى في المقدمة، ويبدو بمثابة إعلان نوايا حسنة حول أغراض الكتاب؛ وأنه يستهدف «تفحّص شبكات الارتباط البشرية وغير البشرية ذات الصلة بالمناخ في فلسطين»، والانتقال، من دون إبطاء، إلى إقرار لاحق من المؤلفة نفسها، أكثر إفصاحاً عن رسائل الكتاب أنه «قصة علاقات القوّة والارتباطات البيئية» بين سكان البلد الفلسطينيين واليهود، ومدى تمثيلها لـ»أوضاع استعمارية» حكمتها مصالح الإمبراطوريات والقوى الإمبريالية، وهيمنت عليها تنميطات الاستشراق.
وفي صياغة أوضح يُسجّل للمؤلفة أنها لا تعفّ عن تبيانها، يشدد الكتاب على «محاولات الخبراء اليهود الأوروبيين لفهم وإدارة والتعامل مع المناخ في فلسطين، وفي الآن ذاته تسليط الضوء على الصلة بين آرائهم الاستشراقية حول المناخ المحلي والبيئة، وحول السكان الفلسطينيين، على حدّ سواء». وإلى جانب تنظيرات إدوارد سعيد حول العلاقة بين إنتاج المعرفة الاستشراقية وممارسة الهيمنة والإخضاع، تقتبس كوهن تعريف الأكاديمية الأمريكية ديانا دافيز للاستشراق البيئي في أنه «تمثيل غربي» لبيئات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقد نُظر إليها كـ «غريبة ومختلّة» بالمقارنة مع بيئة أوروبا «العادية والمنتِجة»!
وكان أوتو واربرغ، عالم النبات الألماني اليهودي والقيادي في الحركة الصهيونية، بمثابة مثال ساطع على الجمع بين أبحاث المناخ والبيئة، وتقارير الاستعمار والاستيطان لصالح السلطات الألمانية عموماً والحركة الصهيونية في فلسطين خصوصاً، وتحديداً منذ عام 1898 حين التحق بالحركة رسمياً وتولى بعدئذ رئاسة العديد من المواقع التنفيذية، وإدارة «لجنة استكشاف فلسطين» و»المنظمة الصهيونية»، إلى جانب التنسيق الوثيق بين مراكز تبادل الخبرات الاستعمارية والاستيطانية. قبله كان عالم الطقس رودولف فيغه، الألماني اليهودي بدوره، قد أطلق المقولة الصارخة «كلّ مشروع استعماري، أينما كان، يعتمد بصفة هائلة على الكمون المناخي للبلد المستهدَف».
والفصول الأربعة في كتاب كوهن لا تتوقف عند «المعرفة اليهودية – الصهيونية» حول المناخ، ضمن سياقات عامة سياسية وثقافية واجتماعية؛ بل تذهب كذلك إلى تحليل جوانب مادية تضافرت مع دراسة مناخ فلسطين، مثل إنتاج الأغذية واستهلاكها، وإدارة المياه، وموادّ البناء، ومعايير المعيشة، والعادات الصحية. وهي هنا تنصف الأبحاث اللامعة التي قام بها أو أشرف على إجرائها إثنوغرافيون فلسطينيون أعلام، أمثال توفيق كنعان، خليل طوطح، عمر صالح البرغوثي، وستيفان حنا ستيفان؛ الذين نشروا العديد من الأبحاث بالإنكليزية أو الألمانية في «مجلة الجمعية الشرقية في فلسطين». هؤلاء، كما تسجّل كوهن، شددوا على أهمية المناخ في الحياة اليومية للمجتمعات الفلسطينية الزراعية، وكان كنعان الأبرز بينهم في مراقبة التراث الفلسطيني عموماً، والزراعي خصوصاً، وتناول المناخ بالتفصيل في مقالة مشهودة، استعرضت أيضاً طرائق الفلاحين في التكهن بالطقس عن طريق رصد الرياح وهجرات الطيور.
وتتوقف كوهن عند تفصيل لافت يتصل بحرص صهاينة تلك الأيام على إكساء أرض فلسطين بمساحات أوسع من الغابات، لهدف أوّل معلَن هو ترسيم ما يشبه «الحدود» للتواجد اليهودي والاستيطاني؛ ولهدف ثانٍ توراتي هذه المرّة، يشمل الأوروبيين المسيحيين واليهود معاً، ينطلق من يقين سائد بأنّ نصوص التوراة ليست أقلّ من تاريخ طبوغرافي وطبيعي ونباتي لأرض فلسطين التاريخية. تفصيل ثانٍ، سبقها إليه كنعان وزملاؤه، هو أنّ المستوطن الأوروبي يولي أهمية فائقة لفصل الصيف والمناخ الحارّ، بينما يحرص الفلاح الفلسطيني على مراقبة الشتاء والمناخ البارد وهطولات الأمطار: الأوّل، خدمة للاستيطان؛ والثاني، تنمية للزراعة والفلاحة. وليس عجيباً أنّ كنعان أورد سبع تسميات مختلفة للمطر، من حيث نوعية القطرة وشدّة الغزارة: «النقطات» غير «الرصرصات»، و»البخّات» غير «الزخّات»، و»الصبّ» غير «الكبّ من الربّ»…
وإلى جانب أغراضه العلمية العديدة، والكثير منها رصين توصلت إليه كوهن بعد جهود بحثية نزيهة وجديرة بالتقدير؛ يدخل كتاب «جديد تحت الشمس» في نطاق أبحاث متزايدة تدحض تلك الخرافة الصهيونية البذيئة، حول «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». كذلك فإنّ توقيت صدوره اليوم، في ذروة حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة وسائر فلسطين، يحمل الكثير من الدلالات حول مآلات حركة صهيونية بدأت استعمارية واستيطانية، وتوجّب أن تصل اليوم إلى العنصرية والتديّن الأعمى ومنظومات الأبارتيد.

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد