تكريم البطل في زمن المحن

mainThumb

05-08-2024 02:16 AM

اعتدنا أن نرى الأبراج الشاهقة في الدول العربية تضاء بصور الرؤساء، أو مشاهير السينما في هوليوود أو بوليوود، لكنها المرة الأولى التي تضاء بصورة قائد فذ من قادة المقاومة الفلسطينية التي يحرص الكثيرون على التبرؤ من التخندق معها حتى لا يخرجوا عن السياق المراد غربيا وصهيونيا.
بدت أبراج لوسيل بالعاصمة القطرية الدوحة، متّشحة بالعلم الفلسطيني وإلى جواره صورة الشهيد إسماعيل هنية، الذي ارتقى إلى السماء في العاصمة الإيرانية طهران، إثر اعتداء غاشم أدى إلى مقتله وحارسه. لكن الأراضي القطرية التي احتضنته حيا مع رفاقه في حركة حماس، ضمّهُ ثراها بعد مماته، بعد مراسم جنائزية مهيبة، إذ أقيمت صلاة الجنازة عليه بعد صلاة الجمعة، بحضور جماهيري ضخم في مسجد محمد بن عبد الوهاب بالدوحة، ولفيف من قيادات إسلامية وعربية وشعبية، إضافة لكثير من الصحافيين المحليين والدوليين لتغطية الحدث.

«يا سمو الأمير الوالد يا سمو الأمير يا قادة قطر ويا شعب قطر ويا حكومة ورجال قطر رفع الله شأنكم شكرا لكم يا قطر، حين غاب الكثيرون حضرتم، حين خذلنا الكثيرون نصرتمونا، حين لم نجد مأوى آويتمونا ولذلك كان حقا أن يعيش أبو العبد (إسماعيل هنية) قائدا حيا على أرض قطر ثم يدفن فيها..» هذا المقطع هو جزء من كلمة القيادي في حركة حماس خالد مشعل خلال مراسم تشييع الجنازة، لم يتجاوز فيها الحقيقة، وعبر عما يجيش في صدور كل الأحرار الذين يلتفون حول القضية الفلسطينية تجاه دولة قطر التي احتضنت قيادات المقاومة، رغم الضغوط الدولية والإقليمية عليها في هذا الشأن، ورغم استهدافها بتهمة دعم الإرهاب.
كانت الدوحة وما زالت من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية وقطاع غزة، وقامت بدور الوساطة في الصراع الفلسطيني الصهيوني، ورفضت الإملاءات الصهيونية بالضغط على حركة حماس للنزول عند شروط مجرم الحرب نتنياهو. فعلت قطر ما لم تفعله دولة عربية إسلامية أخرى تجاه غزة التي تضم المقاومة الفلسطينية، فآلتها الإعلامية كأنها قد أُوقفت على تغطية الأحداث في ذلك القطاع، وفقدت عددا من العاملين فيها أثناء الحرب من مراسلين ومصورين في فلسطين، وما من إعلام سلط الأضواء على أحداث غزة واعتنى بها مثل الإعلام القطري. شبكة الجزيرة عززت من رفع أسهم المقاومة بين الجماهير، بتلك المشاهد التي تبثها للعمليات ضد جيش الاحتلال في القطاع والرشقات الصاروخية التي طالت المدن الفلسطينية المحتلة والمستوطنات الصهيونية، فضلا عن وقائع البداية لطوفان الأقصى. يفر إلى الدوحة المضطهدين ومسلوبو الحقوق الذين أهينوا في أوطانهم، فتكرم وفادتهم وتفتح لهم الأبواب. استضافت قطر قيادات المقاومة الذين لم يجدوا من يؤويهم بعدما خرجوا من سوريا، رفضا لدعم نظامها الفاشي في حربه ضد شعبه. ومن بين القادة الذين استضافتهم وأكرمتهم، فقيد الأمة وليس فلسطين وحدها، القائد إسماعيل هنية رحمه الله، الذي اتخذها موطنا بعد وطنه الأم، ورأى في أهلها روح الأنصار الذين استضافوا المهاجرين في الرعيل الأول وآووهم وأكرموهم، ينطلق منها في أسفاره ويعود إليها سالما آمنا. في مراسم تلك الجنازة المهيبة، جلس أمير قطر في المسجد مع الحضور وقد خيم الحزن على وجهه، وبدا للمرة الأولى لا يرتدي العقال، قيل إنه امتثال لعادة عربية بأن صاحب العزاء لا يلبس العقال، وحقا كان الرجل صاحب العزاء. وظهر في المشهد «الأمير الوالد» وهو يجلس في المسجد على كرسيه المتحرك، ليشارك رموز الدولة القطرية في مراسم التشييع. وإن سألت عن الحضور فهم من كل أصقاع الأرض، لم تمنع قطر منهم أحدا مهما كان موقف الغرب منه.
جنازة لم يمنع المتحدثون فيها من إطلاق كلمة الجهاد ضد الصهاينة، ولم يمنع فيها الهتاف لصالح القضية الفلسطينية وتأييد المقاومة، وبحضور قطري رسمي، بما يعزز من اليقين بانحياز هذه الدولة للقضية الفلسطينية.
تتبعت موقف قادة الرأي والمسؤولين والكُتّاب والمثقفين في قطر، فرأيت في تعليقاتهم وتصريحاتهم، حيال القائد إسماعيل هنية ما يثلج الصدر، ويبرهن على أن القضية الفلسطينية مركوزة في الوجدان القطري حقيقة لا ادعاء. تم دفن إسماعيل هنية في مقابر الأسرة الحاكمة مع المؤسس، وهو أمارة اهتمام بالغ بهذه الشخصية المقاومة، التي لم يكن أحد ليلوم القطريين حال دفنه في المقابر العامة. كل مظاهر التكريم هذه من قطر للمناضل إسماعيل هنية جرت في الوقت الذي تجاهلت حكومات عربية الحادث أو أشارت إليه إشارة عابرة، من دون أن تذكر حتى اسم إسماعيل هنية، فهكذا المواقف، تظهر معادن الرجال. هذا الموقف الذي سجلته قطر لن يُمحى من ذاكرة التاريخ، هذا الموقف بث الأمل في نفوس الجماهير التي استبد بها اليأس من الأنظمة العربية، فشكرا قطر حكومة وشعبا، أكرمكم الله كما أكرمتم الشرفاء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد