حوار مع المطران جورج خضر

mainThumb

08-07-2024 11:37 PM

عندما قررنا، المطران جورج وأنا، أن نعيد كتابة «لو حكيت مسرى الطفولة» بلغة قصصية، فاجأني الرجل بأنه كان ابن نثار الذهب.
فعملُ والده بالذهب جعل الدكان يعبق برائحة ورذاذ نثار الذهب.
من هنا جاء جورج خضر.
جاءنا كصديق ثم جاءنا كمعلم وفي الحالين كان يأخذنا برفق ويعلمنا حب الهوى.
كان مفتوناً بالعمل اليدوي، فبدأ حياته عاملاً يدوياً مع العمال. وهناك تعلم درس التواضع والأخلاق. ثم فجأة جاءته الدعوة من حيث لا يدري. وقرر أن يصير راهباً.
ذهب إلى أحد الأديار المفتوحة وأقام فيه وحده، إلى أن تنبه البطريرك فأرسل يستدعيه.
هكذا بدأت الحكاية.
أذكر أن خضر كان يسهر عند آل نحاس في الأشرفية، وعندما حان وقت الحلوى بعث ورائي، وقال لهم: «أريد أن أتعرف على هذا الشاب الذي يكتب في مجلة الكلمة – الصادرة عن طلاب حركة الشبيبة الأرثوذوكسية».
وصلت إلى هناك. وبعد أن أكلنا اللبن والعسل وهو «طعام أهل الجنة» حسب المطران، مشينا في شوارع الجبل الصغير.
وصرت جزءاً من دائرة صغيرة اختارها خضر من الشابات والشبان كي يناقش معها كلما أتى إلى بيروت، وكان آنذاك أمين عام حركة الشبيبة الأرثوذوكسية. كانت تلك المجموعة من أجمل المجموعات في حياتي لأنها تضمنت المعرفة والدرس والمتعة. ثم اختارني شخصياً كي أصبح رفيق دربه في طرقات الأشرفية حيث كان يذهب إلى منزل شقيقه وكنت أرافقه إلى هناك.
كيف أصف لكم سعادتي وأنا بالقرب من هذا الرجل؟
كان إنسانًا مليئاً بالمحبة والأفكار والقداسة وحب الحياة، وهي صفات متناقضة أو قد تبدو متناقضة، لكنها وصلت إلى تناغمها الكامل كرؤيا.
أزال المطران جورج خضر التناقضات وحمل على أكتافه عبء البداية.
أن تبدأ كما بدأ هو والمجموعة الصغيرة التي كانت معه في تأسيس الحركة، كان مغامرة جنونية.
فالكنيسة كانت قد ترهلت في الزمن العثماني وفرغت من الكفاءات، وإذا بهذا الرجل يعيد الحياة إلى الأديار في الكرسي الأنطاكي، سواء كانوا رهباناً أو راهبات، وإذا بالكنيسة تنهض كفتى يكتشف طريقه في الحياة.
في أواخر الستينيات كانت بيروت تغلي والمنطقة أيضاً. فالتقيت بالمطران وسألني: ما مشاريعك؟
قلت له: «بعدما أنتهي من البكالوريا سوف ألتحق بالعمل الفدائي وأنا مخجول منك يا سيدنا لأنه هيدا حرب».
أخذني في حضنه وقال لي: «متل بعضا، ما تخاف، المسيح كان أول فدائي».
يومها فهمت أن الخلاف في الرأي ليس هو الميزان، الميزان هو الرأي. أي أن تمتلك رأياً وتذهب به إلى هذا العلّامة الكبير.
كما ترون أيها السيدات والسادة، فإن الحكايات تبدأ من طرق مختلفة، لكنني أحب هذه الحكاية بشكل خاص لأنها أدخلتني إلى عالم جورج خضر المليء بالحب والرؤى والذهب، والذي يمسك بيدك ويأخذك إلى حيث يكون المسيح.
في العام الماضي، زرته في برمانا ولم نتكلم إلا قليلاً، وعندما سألته: وأنت ماذا تريد؟ لم يفتح عينيه المغمضتين، لكنه أشار إلى قلبه، وقال: «أريد يسوع».
الطفولة والكهولة تلتقيان في الحب، هذه هي رسالة جورج خضر، الذي سيتحول إلى رائد لاهوت التحرير في الأدب العربي عبر نصوصه التي أعاد فيها رسم فلسطين في قلب الجرح العربي.
جورج خضر ليس كاهناً وأسقفاً فقط، إنه علامة كبرى في أدبنا العربي، كما أنه علّامة اختزن في روحه المعرفة والتواضع، الحب والغضب، ووقف بيننا مثلما وقف إيليا النبي معلناً معمودية النار.
يأخذنا جورج خضر في نصوصه الرؤيوية إلى الشعر الذي اغتسل بدم الخروف المذبوح، بحسب يوحنا. وهو شعر ينثر الحب محولاً الكلمات إلى جسر للعبور إلى العمق الإنساني.
خضر عمّد كنيسته بلغة العرب، محوّلاً التأمل إلى شعر، والكلمات إلى نار يشتعل فيها التوق إلى الحرية والخلاص، فمسيحه ليس في المغارة، إنه «في خيام اللاجئين». تحوّلت فلسطين في قلمه إلى خريطة جديدة للعرب: «العالم العربي كله تبرره فلسطين ولا يبررها. أي أنه قائم من أجلها. موجود إذا اعتبرها مِنة الله عليه وقُدس رغبات المؤمنين بالفداء سبيلاً إلى تقديس أرواحهم وإنقاذ العالم العربي من اللغو».
المصير العربي في لاهوت جورج خضر يصنعه الألم: «إن اندراجي في المصير العربي غير مشروط. أنا مرميٌّ في هذا المصير لكون سيدي مرمياً فيه. أنا أصنع هذا المصير بألمي».
وجورج خضر يختار أن يكون إلى جانب إسماعيل في متاهات العسف: «وقبل أن يأتي الرب في المجد، لا بد أن يأتي في دم المظلومين. نحن إذاً حيث المسيح ذبيح، نحن بالتالي في تاريخ العرب وفي مصيرهم، وإسماعيل طريد في متاهات العسف».
في رؤية متكاملة تضع يسوع الناصري في تاريخه الفلسطيني، وتعيد قراءته في ضوء مآسي النكبة المستمرة، صاغ جورج خضر فلسطينه ليس كاستعارة بل كحقيقة مصبوغة بالألم والدم، فقراءته تتميز في كونها تضع المسيح في قلب التجربة الفلسطينية، وتحرره من الأطر الجاهزة، وتراه في أعين الرعاة وليس في أعين الملوك، وتبني له عرشاً في قلوب اللاجئين والمضطهدين.
يتراءى لي صوته وقد اكتمل فيه الزمن، وكأنه الوجه الآخر للحب الذي كتبته رابعة العدوية، وهي تشهد كيف حوّل هذا الأسقف كلماتها إلى أيقونة تقف إلى جانب النوافذ التي تفتحها الأيقونات على الأبدية:
«أحبكَ حُبين حبَّ الهوى/ وحباً لأنك أهلٌ لذاكَ/ فأما الذي هو حبُ الهوى/ فشغلي بذكراك عمن سواكَ/ وأما الذي أنت أهلٌ له/ فكشفك للحجبِ حتى أراكَ».
مئة سنة يا سيد وأنت تملأ حياتنا بكتاباتك ولطفك وحنانك وقدرتك على رؤية المستقبل.
قرنٌ يا سيدي وهذه البلاد تعانقك من أقصاها إلى أقصاها، من شمالها إلى جنوبها، لتقول لك: نحن معك وسنبقى معك، أمناء للرسالة.
كلمة ألقيت في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة بلوغ المطران جورج خضر المئة عام،
بتنظيم حركة الشبيبة الأرثوذوكسية – بيروت/ 6 تموز 2024.

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد