قراءة تأملية في رواية زعفرانة للدكتورة هدى النعيمي

mainThumb

06-07-2024 11:23 PM

أبدأ من حيث انتهت زعفرانة كظل، بعدما كانت كل شيء طوال الرحلة ، صارت سراباً ... يحكى أنها نامت فوق ذلك القبر ليلةً طويلةً ، تمددت فوقه واغمضت عينيها ، في سكينة تشبه سكينة الحب الأول حين جاء عبيد الى الذخيرة .
صارت دخاناً او سكنت صفحات الكتاب كوهم متحرك ومتغير، المهم أنها عاشت كما كان يجب أن تعيش ، وعلمت الدرس للمارين ، عاشت بقوة الروح التي نفخت روحاً في كل من كان حولها ، روح الكون كما وصفتها النعيمي ، لأن في الكون روحاً محجوبة عنا بأغطية الغفلة ، تحتاج ذاتاً متصلةً بها تأتي وترحل كطيف فقط لتترجم لنا ما تقول الروح ، كأن النعيمي عنت بأنها كانت شيئاً يجب أن نعرفه ونعرف عنه ونعرف مراده دون ضرورة لأن يكون بشراً من الأساس ، كانت روحاً في جسدٍ وبقايا كتاب ، لا تكون الا به ولا تختلف عن الآخرين الا بما تعلمت منه .
كل الحكاية كانت سواراً في معصمها ، تدور في فلك حكايتها الطيفية الغريبة اماكنها وشخصوها ، كنجمة في ليل ، تراها من بعيد ، ثم تغيب كما غابت هي في نهاية الحكاية ، تاركةً خلفها ما لا يفسر ، وفي الذاكرة بريق ضوئها البعيد البهي .
حديث الصباح ، عن امرأة بهية جميلة قوية ، وهبوط المساء حين انتهت طيفاً كأنها لم تكن من الأساس ، ومرور في المنتصف على الحرب والوجع ، فقدان الأحبة برصاص الغدر وقنابل الكراهية ، أول حكاية يموت فيها شخص مرتين ، لأن الحرب تقتل الروح مراراً ، وتلاحق احبتنا حتى في قبورهم ، لتحرمنا حتى من طمأنينة معرفة مكان وجود بقاياهم ، طمأنينة أن نعرف أين نعدوا حين نريد مناجاتهم .
الرواية البسيطة العميقة ، كما هي الذخيرة بسيطة وعميقة ، جعلتنا نرى ونستشعر كيف يختار الإنسان طواعية أن يبيع ربيع عمره الملون ، من أجل غاية سامية ، ليدافع عن وطن وعن مبدأ وفكرة ، كيف يقدم من أجل ذلك الغالي والنفيس ، وكيف يحارب بيديه وأضافره ، كيف يهب زهرة عمره وفلذة كبده فداءاً لوطنه ، وكيف يحارب وجعه ويرسم فقيداً التهمته نار الحرب على جدار كهف يسكن فيه ، كل ذلك من أجل الوطن ، كيف للوهم أن يشبه الحقيقة ، وكيف أن الحقيقة تصبح أقل اهمية من الوهم حين تشوه الحرب معالم الحقيقة فتأخذ ولا تعطي بالمقابل ، فيعيش النازحون بين رسومات خيالاتهم وذكريات سعاداتهم مكتفين بها عن الحقيقة لأن الحرب لم تترك للحقيقة وقتاً لتجلس بجانبهم ليتلمسوها ويعرفوا من تكون .
ذلك ربما مصداق قول القائلين : بأن من يموتون في الحرب هم من ينجون من ويلاتها ، لأنهم يتحولون الى خيالات لطيفة تذهب حيث تريد ، دون أن تخاف أزيز الرصاص او شظايا القنابل ، فشراهة الحرب لن تعود لتوجعهم حتى وإن عادت قنابلها لتخفي معالم القبر او لتهدم الكهف على عائلة الرسومات على جداره ، ذلك ربما ما قالته النعيمي حين لم تشأ أن تتركهم الحرب رسوماً على جدار الكهف بل أرادت لها أن تحررهم حتى من التصاقهم بجدرانه كي ينجو نجاة سرمدية فلا يعلم المارون بأن أحداً من هنا قد مر ، وكي لا يرا المارون منهم أي أثر ، فتكون الحرب قد انتهت نهاية أبدية فلم يبق من آثارها ولا من أثار من قتلت أي ملامح .
الحب والحرب توأمان لم يولدا في نفس الوقت ، يولد أحدهما بعد الآخر فيتسع ويكبر حتى يساوي الآخر ويماثله ويبدوا كأنه توأمه ، كثيراً ما ولد الحب على درب الحكاية ، كان يكفي أن يلتفت رجل لامرأة ، أو أن تلتفت امرأة لرجل ، ليكبر الحب ويصبح توأم الحرب ينازعها سطوتها على القلب ويجلوا وجعها وسوادها ، منذ البداية عن الإلتفاتة الأولى من النافذة الى رجل العجلة ، وحتى آخر آنفاس الحرب ظل الحب ينازعها ملكها ، ويجادلها ويعاركها بيديه ، حتى انتهت هي وبقي هو وبقيت الحكاية ، تتذكر حربها كغيمة صيف ، وحبها كشتاء نزل فأنبت زرعاً وجنات ، رواية زعفرانة ، توأم الحب والحرب ، الموت مراراً حباً ، ومراراً الموت حرباً ، أن تقتل ميتاً مرةً أخرى وتحيي من ماتوا برسومات على جدار كهف ، أن تكون كل شيءٍ كما كانت زعفرانه ، حكيمة ، ذكية ، طبيبة وأماً ، أن تكون أكثر من شخص لكنك متفرد بشيء ليش في آخر غيرك ، كلها أشياء تجمعت وتفرقت بين صفحات الكتاب ، لتروي حكاية تتمنى حين تنتهي منها لو أنها تنسخ من ذاكرتك ووجدانك لكي تعيد قرائتها بذات شغف البدايات ، لكنك في كل محاولة ٍ للنسيان تعود وتتذكر كل لحظة منها على حده كعقد فريد في عنق زعفرانة الأم ، الأصل ، التي لبست كل لحظات الحرب السوداء وكل لحظات الحب البيضاء عقداً تلألأ على صدرها فكانت الحكاية حكايتها ، وكان العنوان إسمها .

شاكر نواصرة 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد