منصات للفرح… منصات للغضب

mainThumb

03-07-2024 01:34 PM

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة سلسلة من الاتهامات بخصوص مهرجان موازين، في الرباط وسلا. وانقسم الرأي العام إلى معارض ومؤيد. وبُعيْد عيد الأضحى، كان الاحتفال بـ»بوجلود» في أكادير مثار سجال بين تصورين متناقضين، مؤيد ومعارض. أليس هذا «مغرب الثقافات»؟
ما أثارني في مثل هذا النوع من الفعاليات الموسيقية والتظاهرات الفرجوية التي باتت تعرفها بلادنا بشكل لم يسبق له مثيل، خلال العقدين الأخيرين، هو انحراف الفن الموسيقي والفرجة الشعبية عن مقاصدهما الجماعية، وتجسيدهما للفرح الشعبي، الذي يتوحد فيه الجميع. وأنهما معا صارا مظهرين من مظاهر المناكفة، ولي الذراع، وفرض الأمر الواقع باسم الأصالة (بوجلود) والحداثة (موازين).
ها نحن نعود إلى الثنائية التي يدينها العقلانيون ودعاة التجديد والتغريب، أرى أن الخلفيات التي تتوارى خلف هاتين التظاهرتين، تسهم في خلق التناقضات الثانوية داخل المجتمع المغربي، وهي تعلن صراحة، أو ضمنا، إصرارها على نوع الإقصاء لمن لا يؤيدون هاتين التظاهرتين، أو يعارضونها، مكيلة لهم ما تشاء من التهم المعروفة. ولا يتولد على هذا سوى نقيضه: الجدال والسجال الذي تحتفي به منصات التواصل الاجتماعي، وليس في ذلك سوى حرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية التي يتخبط فيها المجتمع.
الفرح الشعبي في بعده التاريخي مناسبة لخلق أجواء احتفالية وفرجوية للترويح عن النفس، ومشاركة الآخرين الذين يعوزهم الحال للانخراط فيه، وبذلك كانت الأعياد، والمواسم الشعبية، تجسيدا للفرح الجماعي الذي يتحول إلى عادات وتقليد يحرص الشعب عليها، أيا كانت ظروفه المادية والاقتصادية. كان الفرح الشعبي في طفولتنا واحدا ومُوحِّدا لكل الفئات والطبقات. وكان طبيعيا ومشتركا وعفويا أيضا، لا يُنظِّر له أحد، ولا يتدخل فيه إلا ما اعتاد الناس عليه. لم يكن الاحتفال بـ»بوجلود» أو بـ»بولبطاين» ذا رائحة عرقية كما صرنا نشمها اليوم. مارسناه في الدار البيضاء بصورته التقليدية البدائية بفرو أضحية العيد، وبشكل تلقائي باعتباره فرجة شعبية لا تحمل أي خلفية أيديولوجية. تماما كما كان عليه الأمر في عاشوراء، مع ما كنا نسميه «زمزم» وإيقاد النار (الشعالة) بلا أي خلفية «حسينية».
إنه الفرح الشعبي الذي كان يمارسه المغاربة في كل قرية ومدينة، ولم تكن أي جهة تدعي امتلاكه، أو أنه جزء من تقاليدها وأعرافها الموغلة في القرون؟ إنه الفرح نفسه الذي يوحد، ويعطي للعمق المغربي كامل خصوصيته الكامنة في تنوعه الذي يجتمع عليه. وجه آخر من وجوه هذا الفرح الشعبي المغربي كان يتمثل في مناسبات المجتمع الفلاحي: رأس العام، جز الصوف، مواسم الحصاد، وما تذيل به المواسم الصيفية مع «التبوريدة». كانت كل منطقة في المغرب تحتفل بهذه المناسبات، دون النبش في أصلها وفصلها، أو ادعاء أنها صاحبة الفضل فيها، أو أنها خاصة بها. وحيثما حل المغربي في أي جهة يشارك الناس أفراحهم، ورقصاتهم، وطعامهم، وإن لم تكن له علاقة جهوية بتلك المنطقة. هذا هو الفرح الحقيقي الذي يتوحد فيه الناس، ويوحِّدون فرحتهم. ومن أوجه هذا الفرح الذي لم يبق: الاحتفال بعيد العرش عقِب الاستقلال. كانت «المنصات» في كل ساحة، وفي أي مدينة، والفرق الشعبية من كل المغرب تشترك في هذه المناسبة، والشعب كله «فرحان» بالاستقلال. وكما كان المغاربة يحتفلون بالكبش في عيد الأضحى، كانوا يذبحون الديك الرومي في هذه المناسبة التي كانوا ينخرطون فيها بتلقائية وشعور مشترك.
عندما صرنا نتبجح بالإفطار في رمضان، والدعوة إلى عدم شراء الأضاحي، (ومرحبا ببوجلود؟) وصارت أغلب مطالب بعضنا لا علاقة لها بهويتنا وتاريخنا، صار كل واحد يدعو إلى أن يفرح لوحده، ويتوجه بفرحه إلى فئة دون فئات، ويخلق هذا له منصات في الرباط (مدينة الأنوار) والآخر يوجد له «كرنفالا» استثنائيا في أكَادير. فما الفرق بين المنصات والكرنفالات؟ إنها نسخ رديئة عن المنصات والكرنفالات الغربية، ليس فقط على مستوى الشكل، لكن المضمون أيضا. أنى لمواطن من سلا والرباط أن يحصل على تذكرة بمئات الدراهم للمنصة وهو يشكو من غلاء الأسعار والبطالة؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الكرنفال الذي صار بهرجة بملابس غريبة ومصطنعة لا علاقة لها بالتراث، ولا بالتقاليد، وثمن اللبسة كما يقول أحد المشاركين بأنه اشتراها بألفين وخمسمئة درهم، وأثمانها مرتفعة جدا؟ عندما نتابع أخبار كرنفال البرازيل نلمس جذورا ثقافية حقيقية، ونجد لذلك حضورا في الكتابات السردية والنقدية. أما ما قدمته لنا صور بوجلود أكادير فليس سوى هجانة في اللباس، واختلافات في أشكال الأقنعة، وارتجالا في المسيرة. فما هي الرموز والعلامات التي صار يحملها هذا الاحتفال؟ وما علاقتها بالتراث الأمازيغي خاصة ودلالتها بصفة عامة مغربيا؟ ونقول الشيء نفسه عن المنصات وملابس مرتاديها، وأنواع رقصاتهم.
لست ضد موازين، ولا بوجلود بيلماون. أنا مع الفرح المغربي الجماعي الذي لا يرمي إلى الإقصاء تحت أي ذريعة مادية أو فكرية. ولا يمكنني أن أمارس الفرح، وأمامي شخص حزين. لنشترك في ما يسعدنا إذا كان ما يشقينا يعزز مشاركتنا. أما الأصالة الحداثية، والحداثة الأصالية فليست سوى بهرجة، وتلفيق، ومسخ للذات المغربية وثقافتها.
(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد