في قلب كلّ عاشق شيء من بُوشكين

mainThumb

03-07-2024 12:10 PM

لا يوجد في الحياة ما هو أكثر تعذيباً وصعوبة مثل الشكوك. عندما يكون الحب كبيراً وصادقاً فهو يوازي في درجته، الكم من الغيرة. الغيرة القاسية التي تشتعل داخلياً تقود إلى الشكوك التي قد تكون مؤسسة على شيء ما، ونادراً ما تنبني على مجرد الظنون لأن الشك يبدأ من الاهتمام الذي يوليه الفرد المحبوب لشخص ثالث. ويتسع الشك حتى يصبح مرضاً، إذ لا يستطيع المرء أن يفترق مع من يحب لأنه يريده بقوة ويحلم معه بالأجمل دوماً، بل ومريض به، أو تجمعه به مصلحة كبيرة لا يمكنه أن يضحي بها بسبب نزوة مشكوك فيها، ولا أن يذهب نحو غيرها لأنه مشدود إلى من يحب وتزيد الغيرة والشكوك بهذا الارتباط. وقد ينهك هذا الحب صاحبه لدرجة الانهيار وحتى الانتحار في حالات عديدة.
وعندما نسترجع سير الكتاب الكبار ومعاناتهم العشقية، نلمس ذلك بوضوح تام. هل كل حب كبير هو في النهاية قاتل ومدمر؟ سؤال كبير يفرض نفسه بقوة. ماذا لو عاش الناس الحب بلا مسبقات ولا أسئلة غامضة، وقبلوا بما هو كائن، كما هو؟ ربما كان وهم خلود العلاقة هو السبب، وعندما نكتشف الحقيقة المرة بالحالة الطارئة لأية علاقة إنسانية، يصبح الحب الخادع مثل الجمرة الحارقة؛ ينهار الهرم العشقي في ثانية، لكن الذي انهار في الحقيقة هو الوهم الذي كثيراً ما نبنيه في داخلنا، عندما نكتشفه يصبح من الصعب تحمله، بل من المستحيل. ويعيش الإنسان حالة لا هي جهنم التي تحرق الكائن بسرعة، ولا هي الجنة المبتغاة.
عندما نقرأ حياة الشاعر الروسي ندرك بسرعة حالة القسوة التي عاشها وانتهت به إلى ما يشبه الانتحار. من المؤكد أن تكون هذه الأسئلة والفرضيات التي طرحناها قد اخترقت وجدان الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين، وهو يسير بخطى المصمم على الانتحار باتجاه مبارزة لم تكن متكافئة، ولم يكن أصلاً مهيأ لها. لننس للحظات ألكسندر بوشكين المقرب من القياصرة، والشاعر العظيم الذي ترك ملامسه على أجيال متعاقبة، والمسرحي الفذ، وتحدثنا عن بوشكين الهش، الإنسان العاشق؟
فقد تحمل بوشكين وضعه المالي السيئ في السنوات الأخيرة من حياته بجلد وصبر. كان يعيش تقريباً عالة على زوجته وحبيبته نتاليا التي منحته الحب وأربعة أطفال. لكنه لم يتحمل أن تسرق منه بسبب نزوة عابرة. كانت نتاليا امرأة جميلة، وأنيقة وهشة عاطفياً، ومحبوبة من الوسط الغني القادر على شراء كل شيء حتى العواطف. أغراها ضابط ألزاسي هو البارون جورج- شارل دو هيكيرين دانتيس le baron Georges-Charles de Heeckeren d’Anthès. أصيبت به بسرعة. شعرت أنها وجدت الفارس الذي عشقته في أحلامها، فانصاعت لغواياته ولجماله وماله ورتبته المجتمعية. وأصبحا يلتقيان كثيراً في الصالونات والفنادق الراقية والأماكن المعزولة، لدرجة أن لقاءاتهما أصبحت حديث الخاص والعام. اشتعلت الغيرة القاتلة في بوشكين. كتب لها قصائد خاصة عبر فيها عن شجنه، لكن نتاليا كانت مسحورة بحبيبها. أن يذهب من منحته كل حبك وجنونك مع غيرك وتكتشف السرّ، فتلك مقتلة تجعل كل شيء ينهار من حولك، جرح لا يرتق أبداً.
حاول بوشكين أن يثنيها عن لقاءات أصبحت مشبوهة ظلت هي تنكرها وتنكر العلاقة، وتصر على أنها مجرد صداقة حاولت من خلالها اكتشاف عوالم أخرى، لكن تربيتها المحافظة لم تمنعها من السقوط بين ذراعي هذا الضابط. دخل بوشكين في ظلمة الخاسرين عاطفياً، وبدأ يبحث عن وسيلة ليثبت عظمته أمام زوجته وحبيبته. لم تبق أمامه إلا المبارزة دفاعاً عن شرفه وعرض وزوجته، لكن الضابط الألزاسي أقنع بوشكين بأنه لا داعي لذلك؛ لأن المعركة لن تكون متكافئة بين عسكري محترف وشاعر هش، وحاول إقناع بوشكين بأنه مغرم بأختها وليس بنتاليا، وأن شكوكه غير مؤسسة، وكل حلمه أن يتزوج بأختها. وذلك ما حدث بالفعل، لم يكن بوشكين ينتظر إلا ذلك ليرتاح داخلياً، وتم تفادي المبارزة القاتلة. في الحقيقة، لم يكن ذلك كله إلا مسرحية من الضابط ليكون قريباً من نتاليا. وكثر الغمز واللمز من حول بوشكين، وكثرت الرسائل التي كانت تأتيه وتؤكد على علاقة زوجته بالضابط.
وفي 25 جانفيي 1837 المصادف لـ 6 فبراير 1837 بالتقويم الغريغوري، طلب من الضابط البارون المبارزة بالسلاح الناري. التقى الرجلان في ضواحي مدينة سانت بطرسبورغ، بمحاذاة بحيرة تشيرنايا (البحيرة السوداء)، لم تكن المبارزة متكافئة، كانت فعلاً انتحارياً أكثر منها مبارزة. تلقى بوشكين الرصاصة القاتلة في بطنه، مات على أثرها بعد يومين في بيته، رافضاً أي تدخل طبي. ألبسته نتاليا طاقماً أنيقاً كما أمر، قبل أن يأتي أحبته وأصدقاؤه لتوديعه الوداع الأخير. وبسبب الخوف من الجماهير التي حوطت بيته بالمئات، تم نقل مراسم الصلاة على جثمانه من كنيسة سانت إيزاك (القديس إسحاق) إلى معبد منقذ الصورة المدهشة temple du Sauveur de l’image miraculeuse بسانت بطرسبورغ. ثم دفن في أرض عائلته وذويه. خصه النحات الكبير ألكسندر أوبيكوشين بتمثال ضخم في موسكو ما يزال قائماً حتى اليوم، دشنه أول مرة الروائي العظيم دستويفسكي وتورجنيف في 1880.
كان بوشكين عاشقاً للأوبرا في تقاليدها الفنية المأساوية، فكتب «الأميرة البجعة» الجميلة. جسدها الموسيقي الكبير صاحب رائعة ألف ليلة وليلة، ريمسكي كورساكوف في سنة 1900 على مسارح موسكو. وكذلك «الديك الذهبي» في سنة 1909 كتب روسالكا الأسطورة العشقية الشهيرة حول الثمن الغالي الذي يمكن أن يدفعه العاشق بحياته كلها وفيها شيء عميق منه، وحولها دارغوميسكي إلى أوبرا في سنة 1856. و»الفارس البخيل» في سنة 1906.
قد يقول قائل في النهاية كيف لرجل شاعر كبير أن يموت بهذه الطريقة المجنونة، ويبارز باروناً وعسكرياً محترفاً من أجل امرأة عشقت غيره وخانته العشرات من المرات وكان يعرف ذلك، فصدف الحياة التي كشفت له هذه الأسرار دمرته نهائياً، الأمر الذي أفقد المبارزة معناها الأخلاقي. دافع بوشكين عن أية قيمة في النهاية باستثناء جرحه وكبريائه؟ المؤكد أنه مات من أجل شيء كان مقتنعاً به وسار في أثره حد التلاشي. وربما يكون أصلاً قد انتحر لأنه لم يتحمل خيانة من امرأة أحبها بكل جنونه الشاعري لدرجة أن ألّهها. كان كلما رآها تقف خلف المرآة طويلاً، ترتب جسدها ووجهها، لدرجة عندما تلتفت نحوه يراها مثل الدمية الصينية بالمساحيق التي تزيدها جمالاً، تشتعل كل حرائقه الكامنة التي قادته نحو التهلكة. عندما ذهب بوشكين إلى المبارزة، كان يعرف جيداً مآله، لكنه أصر على ذلك حتى الموت. كانت قوة الحب، وربما الغيرة، فوق إرادته. فقد آمن بوشكين بحبه لنتاليا حتى النهاية، لكن ذلك لم يكن كافياً. المبارزة الانتحارية التي خاضها وكلفته حياته كانت تعبيره عن سلطة الحب والغيرة وحتى الكراهية، التي لم يكن في مقدوره مقاومتها. كان بوشكين العاشق ريشة في مهب الموت، وأعتقد جازماً أن في كل عاشق حقيقي شيء من بوشكين. كم يشبهنا وكم يشبه عصرنا!



(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد