أدباء يكرهون الصيف!

mainThumb

01-07-2024 12:54 AM

أقرّ ابتداء بأنّني لست متصالحة من الجانب الثقافي مع فصل الصيف، خاصة أنني من منطقة جمعت في صيفها المزعجَين: حرارة النهار ورطوبة الليل. لذلك كنت أفضل فيه السياحة في أرض الله الواسعة واكتشاف المدن والتعرّف على ثقافات جديدة مطبقة قول الشافعي «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد» من أن أبقى متذمرة منزعجة.
وفي مرحلة الشباب حين كانت إمكاناتنا لا تسمح بالسفر، كان هناك تقليد جميل يشغل الشباب ويفيدهم ويملأ أوقاتهم هو المواسم الثقافية الصيفية، فكانت النوادي والمكتبات برعاية رسمية، أو بمبادرات فردية تضع برامج للقراءة وللمسابقات وللجوائز تريح الطلبة من عبء عامهم الدراسي، لكن لا تخرجهم من دائرة القراءة، فكانت تقترح علينا كتبا من خارج منهاجنا الدراسي لمطالعتها، حين لم تكن لدينا سوى القراءة وسيلة ترفيه وتثقيف في آن واحد، فللصيف قراءاته كما لباقي فصول السنة قراءاتها.

ويعجبني تقليد منتشر في الغرب فلديهم ما يعرف بقراءات الصيف (summer reads) وهي كتب تتميز بمضمونها الجاذب مثل الروايات الرومانسية، وكتب الغموض والإثارة والمذكرات، كما تتميز بشكلها إذ إجمالا تدخل ضمن ما يعرف بطبعات الجيب، حتى لا تشكّل إرباكا لحاملها ولا عبئا، فقارئها إما يكون مسافرا أو مصطافا، بل حتى نقاط بيعها مختلفة فنجدها في محطات القطار أو السوبرماركت، إضافة إلى المكتبات حتى يسهل وصول القارئ المستهدف إليها. والآن أصبح الموضوع أسهل والخيارات أوسع، ففي جهاز لوحي صغير بحجم كتاب جيب قليل الصفحات يمكن تحميل ما نشاء من الكتب التي نرغب في قراءتها، بل وتنزيل أحدث ما يصدر منها بكبسة زر.

وفكرة القراءات الصيفية نجدها ظهرت باكرا عند الكتاب العرب، فقد نشر عباس محمود العقاد مقالا في «الهلال» قبل سبعين سنة بعنوان «ماذا نقرأ في الصيف؟» ينصح فيه القراء ويوجههم لما يقرؤون في الصيف، فكتب «أما القارئ المطالع فعليه في الصيف بالسِّيَر والرحلات والتاريخ، وأما القارئ المتسلي فعليه بالقصص والحكايات والنوادر» بل يرى العقاد في مقاله، أن هناك مواضيع تصلح قراءتها حسب الفصول فـ«أصحاب المطالعات الفلسفية يستريحون إليها في ليالي الشتاء الطويلة، ولا يستريحون إليها في ليل الصيف ولا في نهاره».
وبعيدا عما يراه البعض وصاية فكرية، فللعقاد موقفان متناقضان من فصل الصيف، إذ كتب سنة 1949 مقالا بعنوان «الصيف المظلوم» يناقش فيه أثر فصل الصيف على جهود الإنسان العقلية والبدنية، ويبرهن فيه على أن هذا الكلام غير دقيق، كما يدلل على ذلك بأن ما يقدمه المصريون من جهد فكري وبدني في الصيف، لا يختلف عن غيره من الفصول، ويختم مقاله بهذه الفقرة «فغاية ما يقال عن أثر الصيف المصري في الجهود العقلية، إنّه زعم كزعم القائلين بأثره في الجهود البدنية، إن لم ينقضه الواقع فهو على الأقل زعم بغير دليل» لكن بعد ثلاث سنوات من هذا الرأي يكتب العقاد مقالا ذا عنوان مثير «أكره الصيف» يشكو فيه هذا الفصل وتأثيراته العقلية والجسدية ويتمنى فيه هذه الأمنية التي تدل على ضيقه الشديد بالصيف «إذا لم يكن بد من طلب الدوام فليدم لنا فصل الشتاء وليذهب عنا الصيف، حيث شاء، إلى أقصى الأرض أو أطراف السماء».

ولطه حسين رأي مقارب لرأي العقاد في ما يصلح للصيف من قراءات، مستدلا بما يفعله الكتاب الغربيون، ففي كتابه «بين بين» نجد له فصلا عنوانه «أدب الصيف» يذهب فيه إلى أن «الكُتَّاب الغربيِّين… يَرْفُقُون بأنفسهم وبالقُرَّاء إذا أقبل الصيف، وهم يَتَخَفَّفُون من الموضوعات الضخمة الفخمة، و لا يَعْرِضون من الأحاديث إلا السهل اليسير وهم ينتهون إلى إنشاء أَدَب خاصٍّ يتناول موضوعاتٍ قَلَّمَا تُتناول في غير فصل الصيف». وطه حسين لا يخفي ضيقه أيضا بفصل الصيف، خاصة إذا قضاه في مصر، بل يختصره بعبارة تُظهر موقفه منه حين يراه «فصل الكَلال والملال والكسل، والعجز عن كل نشاط وعَمَل» لكن ليس أيّ صيف، بل صيفه في مصر بالتحديد، فيعترف بأنه أبغض فصول السنة إليه، إن أقام فيها، أما حين يصيّف خارجها، وقد اعتاد على فعل ذلك كثيرا، سواء في أوروبا أو لبنان أحيانا، فيكتب في الكتاب نفسه فصلا آخر بعنوان «الصيف» جاء فيه ««لسْتُ أَعْرف عاما خَرَجْت فيه من مصر أثناء الصيف وَعُدْتُ فيه إلى مصر فارغ اليدَيْن، وإنما أنا أخرج من مصر فلا أكاد أستقر هنا أو هناك حتى يَفْتَح الله عليَّ بكتاب أُمْلِيه، أو بكتاب أُعدُّه في نفسي لأُمْلِيَه إذا رَجَعْتُ» بل كان طه حسين يرى كتاباته في الصيف لغوا وهو بتعريف المعاجم: (ما لا يُعتدّ به من كلام وغيره، ولا يُحصَل منه على فائدة ولا نفع) ويضع هذه الصفة عنوانا لأحد كتبه «من لغو الصيف» اشتهر منه مقال عنوانه «من لغو الصيف إلى جد الشتاء» وفيه يقول «ماذا كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف، وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير إلا على مهل يشبه الوقوف، وفي أناةٍ تضيق بها النفوس. كل أسباب النشاط مؤجلة إلى حين». لكن يظهر أن هذا العنوان مخادع بدوره، ففي الكتاب وبعكس ما يوحي به عنوانه مقالات جادة منها واحدة عن الخليفة الفاروق وثانية عن أزمة الجامعة وثالثة عن معجزة الفن، وكذلك فعل في كتاب آخر يحمل عنوانه كذلك اسم هذا الفصل «في الصيف» ويتناول يوميات وخواطر في زيارة صيفية له على متن سفينة إلى باريس مع زوجته وولديه.
وإذا أضفنا إلى عباس محمود العقاد وطه حسين الروائيَ نجيب محفوظ الذي كان بدوره لا يطيق الصيف، كما صرح مرة «أنا أفضل الشتاء على الصيف، فالشتاء هو فصل النشاط بالنسبة لي، سواء النشاط الذهني أو البدني، فقد كتبت أعمالي كلها في الشتاء» اكتمل لدينا ثالوث من أشهر أدباء مصر في القرن العشرين يصلح أن نسميه «حزب كارهي الصيف». سأكون سعيدة بانضمامي إليه.

وللإنصاف ليس جميع الأدباء من كارهي الصيف، فهناك عاشقون له ويكفي أن نذكر أن الروائي إرنست همنغواي كان من محبيه، وكتب أفضل رواياته في شهوره الحارة، وكذلك كان النوبلي الآخر غابرييل غارسيا ماركيز، والظاهر أن بعض الشعراء المعاصرين متعاطف مع الصيف أكثر من الشعراء القدامى، فحين نجد شاعرا عباسيا يشتكي الحرّ قائلا: في زمانٍ يَشوي الوجوهَ بحرٍّ… ويُذيبُ الجسومَ لو كُنّ صخرا / لا تَطيرُ النّسورُ فيه إذا ما… وَقفتْ شمسُه وقاربَ ظُهرَا/ ويودّ الغصنُ النّضيرُ به… لو أنّه من لحائه يتعرّى، فأيُّ صيف هذا الذي تتمنى فيه الغصون لو تخلّت عن قشرتها. نجد في المقابل شعراء معاصرين يفضّلون الصيف ولكلّ أسبابه كإيليا أبي ماضي، الذي يراه فصلا كريما: ما أُحَيلى الصَيفَ ما أَكرَمَهُ… مَلَأَ الدُنيا رَخاءً وَرَفاها/ عِندَما رَدَّ إِلى الأَرضِ الصِبا… رَدَّ أَحلامي الَّتي الدَهرُ طَواها، أو معروف الرصافي الذي يرى هذا الفصل أبا الفقير كما يقول المثل الشعبي: فالصّيفُ أَرأفُ بالفقيرِ منَ الشِّتا… ولذا تُحبُّ قدومَه الفقراءُ / من كانَ أعْوزَه كساءٌ منهمُ… فالصّيفُ مَلحفَةٌ له وكِساء. أما الشاعر الراحل غازي القصيبي فقد أحب الصيف لسبب مختلف، إذ كان سببا لاجتماع شمله بحبيبته لذلك يودعه بالدموع فانتهاؤه هو انتهاء قصة حب يصورها القصيبي بتشاؤم ظاهر، إذ لا يعتقد أن السعادة ستطرق بابه مرتين: يرتحلُ الصيفُ فقومي بـنا نسكب في وداعه دمعتيـنْ / توَّجَنا أنا أمير الهوى وأنتِ أحلى الغيد في الخافقين / يرتحل الصيف وأبقى أنا أمشي على الثلج بخفي حُنين / أبصرني الصيف هنا مرة أشك أن يبصرني مرتين. وللسياب كذلك صيفه الذي «يلثم شط العراق» كما لدرويش صيفه الذي «يصعد من أناملها ويفتح كل باب» فهل ألام إذا ما تضامنت مع صرخة العقاد «فليدم لنا فصل الشتاء وليذهب عنا الصيف حيث شاء».


(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد