نحنُ «شهودُ زور» على دمِنا

mainThumb

25-06-2024 11:41 PM


ثمّة جُمَلٌ تختصرُ أشياءَ كثيرة، سيكونُ من المُحرجِ والمؤذي في آنٍ معًا شرحُها. تمامًا كما يبدو السّياق الفلسطينيّ (برمّته) متعذِّرَ الشّرح أمامَ آلاف الأسئلة العالقة أجوبتُها في الحلق.. خَجَلًا (... والخجل عاطفة ثوريّة)، وأمامَ آلافِ التناقضاتِ التي تصبغُ يوميَّنا بالبُقع المريضة والدّاكنة والرّماديّة، «مرقَّطةٌ» وتكادُ تصبحُ سوداءَ كلُّها فروتُنا التي تحتَ الحمراءِ (التي من دمِنا).
أكتُبُ مؤخرًا من نقطةِ إحباطِ العارف (أو الذي يظنُّ أنّه يعرف؛ ذاكَ أنّ كلّ إنسانٍ يظنُّ أنّه أوتي الكفاية من عقله على رأي ديكارت) وهشاشة المهزوم، وأصمتُ صمتَ المخذولِ المترفِّع المصاب برَبْكةٍ وجوديّة (كانَ وصَفَ شاعرٌ مغربيٌ آخَرَ فلسطينيًا فقال: "لقد خذلتْهُ فلسطينيّته".. أو كأنّها)، وأنزوي.. أهُشُّ سيلَ الأجوبةِ عن فَمي، وأُهرِّبُ صُورَنا المتشظِّية من المرايا إلى الأنهار، وأخافُ علينا كثيرًا مِنّا.
مرصوفةٌ بعناية جثامينُ الشّهداءِ التي في غزّة، ومثلها الجثثُ في صدري. (مَن لديه الجَلَدُ لرصفِ جُثَث؟ والاعتناءِ بصورتها البصريّة أمامَ المتفرِّجين أو...). مرصوفةٌ بعناية.. القراراتُ الدّوليّة والبيانات وحتّى الأخبارُ التي تقول: "إنّ الناسَ باعوا ملابسهم ليأكلوا في غزّة، ونبشوا أطنانًا من النّفايات". هذا الجوعُ حقيقيّ تمامًا.. (ليسَ مثلَ الذي في العقولِ والأرواح).
عامَ 2018، كنتُ قرّرت اقتباسَ درويش لمطلعِ نصٍّ فلسطينيٍّ طويل، ولم أجد أفضلَ من صوتِ الفلسطينيّ الخارجِ من بيروت إلى منافي الأرضِ، فاقتبستُ:
"لا جوعَ في روحي؛
أكلتُ من الرغيف الفذِّ ما يكفي المسيرَ إلى نهايات الجِهات.
عشاؤكم ليسَ الأخيرَ (وليسَ فينا) من تراجَعَ أو تَداعى"
وكنتُ مخطئًا وأنا أنتصِرُ لصوتِ الشّاعِر المُقاومِ والصَّلب على صوتِ الشّاعِر الهشِّ والمهزومِ الأكثرِ وضوحًا في «المعلّقة»، وأحسُّ كأنّ عليَّ اليوم أنْ أعيدَ الاعتذارَ للواضِح البيِّن: "كم كنتَ وحدك/ ليزيِّنوكَ ويأخذوكَ إلى المعارضِ/ لا تذكُر الموتى/ آه يا دمنا الفضيحة/ عربٌ وضاعوا/ الدّول اللّقيطة/ غمِّسي بدمي زهورَكِ/ واسحب ظِلالك كلَّها........ كُلّنا في البحرِ ماء".
لا تمنحُنا الحياةُ دائمًا فرصةً للتّراجع، أو تقييم الأخطاءِ والخسارات. لكنّ ذلك لا يُهمّ ربّما... فـ«أونروا» تقول إنّ "عشرة أطفالٍ في غزّة يوميًا يفقدونَ ساقًا أو ساقين، ناهيكَ عن الأيادي". والكلّ يقول.. ويُحصي لحمنا الذي شتّته الطائرات على الهواءِ مباشرة، أتحسّسُ قدميَّ ويسري فيهما الخَدَر، وأجدُ رفاهيّة مطلقة التّفكيرُ في الفرصِ والأخطاءِ والخسارات، رفاهيّةٌ مطلقة... كلُّ ما نحنُ فيه. كُنّا نعرجُ (مجازًا) ونحنُ نسيرُ إلى ما يشبِهُ مستقبَلنا، أمّا الآن.. فبلا أقدامٍ سنجلسُ كلُّنا ننتظرُ أنْ تمرّ فوق أجسادنا كلّ هذه الحياة: الثقيلة والفاسدة حتّى تنتزعنا احتمالاتُ الموت من (تحتِها) (...).

 

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد