أسامة المسلم… محاولة لتفسير ظاهرة

mainThumb

24-06-2024 12:30 AM

من السهل أن نلجأ إلى تتفيه أي إنجاز لا نجد له تفسيرا مقنعا، أو لا يوافق توجهاتنا، والتهمة جاهزة،أعطانا آلان دونو الكلمة المفتاح لوصفها بـ«نظام التفاهة» كما من السهل أيضا أن ننحاز لهذا المنجز بطريقة غير مبنية على أسس نقدية علمية، بل تستند إلى عوامل خارج النص كركوب الموجة بادعاء قدرة استشرافية بأننا تنبأنا بالإنجاز ولم نضع العصي في دواليبه، مخفين دوافعنا القُطرية أو الأيديولوجية أو الدينية لهذا الانحياز.
وأجد نفسي بين هذين الحدّين السهلين، أسعى للتموضع في منطقة يمكنني النظر منها بموضوعية قدر الإمكان والتفكير بعقل بارد حتى أفهم أولا لأستنتج بعد ذلك. وهذا ما حدث حين سمعت باسم الروائي السعودي الظاهرة أسامة المسلم، قبل شهر من الآن فقط. ولست وحدي من لم تسمع باسمه، أو لم تقرأ له، رغم أنه نشر أول رواياته قبل تسع سنوات، فقد كتب مواطنه الناقد عبد الله الغذامي وطالب الرفاعي وعائشة سلطان وآخرون غيرهم، بأنهم لم يسمعوا به قبل ما حدث في معرض الرباط الدولي للكتاب، من تدافع للحصول على نسخة موقعة من رواياته، نتجت عنه حالات إغماء اضطرت إدارة المعرض معها إلى إلغاء حفل التوقيع خشية حدوث فوضى. وكم عاتبت نفسي كيف فاتني أن أطّلع على ما كتبه أسامة المسلم لاعتبارين: مهني بحكم عملي في الإعلام الثقافي منذ قرابة ربع قرن، وشخصي لأن الرواية من قراءاتي المفضلة وولعي بالاهتمام بهذا الجنس الأدبي، أوصلني إلى تحكيم في الجائزة العالمية للرواية العربية سنة 2015، وللمصادفة هي السنة نفسها التي نشر فيها أسامة المسلم روايتيه «خوف» و«بساتين عربستان».

هناك خلل ما حين يكتب روائي 32 رواية في تسع سنوات بعضها في شكل سلسلة، وتباع من روايته 150 ألف نسخة، إلى الحد الذي جعل القاص الكويتي طالب الرفاعي يكتب «مبيعات كتب أسامة المسلّم منفردا تتجاوز جميع ما يبيعه الروائيون العرب مُجتمعين!» ومع هذا تجهله ولم تتجاهله النخب الثقافية التي يسميها أسامة في أحد لقاءاته «ديناصورات الوسط الأدبي» أقول تجهله، لأن القارئ العربي كائن ورقي ما زال بعيدا عن استعمال الوسائط التكنولوجية في القراءة، فكم منّا من يشتري الكتب الإلكترونية بدلا من الكتب المطبوعة؟ وكم منّا من يقرأ الروايات على جهاز كيندل، أو آيباد، أو حتى على هاتفه الذكي، ويفضل هذا على ملمس الورق ورائحته؟ لذلك كان أسامة المسلم معروفا عند أبناء الجيل زد (Generation Z) الذين ولدوا منتصف تسعينيات القرن الماضي وصعودا، وتآلفوا مع وسائل التواصل الاجتماعي منذ طفولتهم الأولى حتى أُطلق عليهم اسم المواطنين الرقميين. وبقدر انتشار الروائي عند هذا الجيل الذي فاجأ الجميع، حين تجلّى في شكل هذا الإقبال الكبير في معرض الرباط، وقبله في معرضي جدة والقاهرة، بقدر ما كانت الأجيال الأسبق تجهله تماما، وقد علّق أسامة المسلم نفسه على هذا الموضوع بتوصيف طريف حين قال بإنه «أشهر كاتب غير معروف». ويكفي للتدليل على صحة هذا التوصيف أن نعود إلى محرك البحث غوغل، لنجد أن ما كتب عنه من شهر فقط أي بعد غزوة معرض الرباط، أضعاف ما كتب عنه منذ أن نشر أولى رواياته قبل تسع سنوات.

ومثلما فعل الناقد عبد الله الغذامي فعلتُ على غير اتفاق بيننا، وأعتقد أن ردة فعل كثير من القراء والمثقفين كانت متشابهة وهي، البحث عن روايات المسلم لقراءتها، وفعلتُ مثل الغذامي مرة ثانية حين قرأت رواية «خوف» في ليلة واحدة، وهي رواية تدور حول عالم الجن وتحضيرهم وتلبّسهم بالإنس، ترك فيها كاتبها الباب مواربا، هل هي حقيقة، أم محض خيال؟ فسيرة بطلها مطابقة في كثير من تفاصيلها لسيرة أسامة نفسه (بغضّ النظر عن حكايات الجن) وقد زاد هو نفسه -عامدا- من منسوب الغموض حين كتب في الصفحة 23 التي أصبحت بدورها مشهورة «ما سأذكره في الصفحات التالية من أحداث وقصص وروايات لن أطلب من أحد تصديقها، ولن أدّعي أنها حقيقة حفاظا على نفسي من سوط النقد الجاهل، وكذلك لن أقول إنها رواية من نسج خيالي، كي لا أظلم جزءا مهما من حياتي غيّرها إلى الأبد». ورأيي في الرواية ـ وليس وصاية على أي قارئ ـ أنها مشوّقة أقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة التي قرأها الكاتب صغيرا وتأثر بها، حيث تتناسل الحكايات من بعضها، لكن لم أجد فيها تطابقا مع ذائقتي الروائية، ولا ما أبحث عنه حين أقرأ أي إبداع أدبي، فما بقي من أثر الرواية مشابه لما تتركه فيّ مشاهدة فيلم مشوّق يعطيني جرعة من متعة آنية يزول أثرها بعد جينيريك النهاية، واختلاف «الذوق» لا يفسد للود قضية.

وأجدني مختلفة مع الناقد الغذامي، حين أرجعَ فتنة الرواية إلى ما سمّاه (الفصحى المحكية) الذي نظّر لها في بعض كتبه، فهو يرى أن لغة أسامة المسلم «لغة عربية بسيطة أقرب للغة المشافهة.. دون تأنّق وتفصح وأسلبة متعمدة» ويرى أن الروائي «لم يقع في حبائل اللغة النخبوية ولا في ترقيص اللغة الجماهيرية، هو فقط كتب نفسه بكل تلقائيتها» لكن هل اللغة البسيطة المباشرة القريبة من المحكية تكفي لصنع ظاهرة روائية، مع العلم أن أغلب الشباب الذين يكتبون الروايات الآن يبتعدون عن اللغة البليغة، ويلجؤون إلى ما يصطلح عليه الآن بـ(لغة الجرائد). قد تكون لغة أسامة المسلم (وهو الذي صرّح في معرض جدة أنه ضعيف في اللغة العربية نتيجة نشأته في أمريكا) عاملا جاذبا لقراء رواياته، وهم إجمالا شباب ينفرون مما سماه الغذامي اللغة النخبوية، لكني لا أراه عاملا وحيدا كافيا لهذا الإقبال الجماهيري على كتبه، بل لعل مقارنة بظاهرة عالمية في عالم الكتابة مثل «سلسلة هاري بوتر» أو «ملك الخواتم» تقرّبنا من فهم وتفسير ما حدث بمعرض الرباط وغيره، وبعبارة أخرى فتّش عن المضمون لا الشكل، ما الذي يجعل كتب هاري بوتر تصبح الأكثر مبيعا في العالم وتقوم عليها صناعة ضخمة من الأفلام إلى الأقلام؟ الجواب على هذا السؤال هو مفتاح فهم الظاهرة المسلمية، فكتب الرعب وحكايات الجن والسحر والعالم الموازي، كانت ولا تزال دائما مثيرة للفضول، وقبل روايات أسامة المسلم لاقت روايات أحمد خالد توفيق رواجا جيدا.

والشباب المراهق بحاجة نفسية إلى الهروب من واقع يزيدهم يوما بعد يوم اغترابا ويعزلهم في هواتف ذكية ووسائل تواصل تصنع لهم عالما افتراضيا أدمنوه فأصبحوا أسراه. وهذا ينقلنا إلى عامل آخر ساهم في هذا الانتشار الذي فاجأ أغلب المهتمين بالكتاب وهو حسنُ استغلال أسامة المسلم لمواقع التواصل فهو ناشط على الإنستغرام، حيث يملك قرابة 400 ألف متابع، وسواء صحّ تنسيق أسامة المسلم مع «صانع محتوى مغربي ينشر فيديوهات تحقق مشاهدات بمئات الآلاف، كلها حول الفانتازيا وعالم الجن، جزء مهم منها قائم على روايات أسامة المسلم. ونجح في خلق جمهور واسع من تلاميذ الثانويات والإعداديات» كما كُتب، أم لم يصح، فمن حقّ الكاتب أن يروّج لكتابه بالطريقة التي يشاء ما دامت الغاية إيصال أدبه، ومن منا يكتب لنفسه فقط مكتفيا ببرجه العاجي، لكن التفاؤل الذي عبّرتْ عنه مانشيتات الصحف مثل «أسامة المسلم يُحرك بِركة القراءة الراكدة» أو «هاري بوتر العرب الأب الروحي الجديد الذي أدخل الشباب جنة الأدب» ليس سوى أمنيات نرجو أن تتحقق فسنونوة واحدة لا تصنع الربيع، وأرقام المقروئية في عالمنا العربي مرعبة. وبين محتفٍ بهذه الظاهرة الأدبية ومتشفٍّ فيها كما وصف طالب الرفاعي منتقدي روايات المسلم، لا أجد أفضل من الأخذ بنصيحة الروائي واسيني الأعرج وهو يدخل ضمن الذين نصحهم أسامة المسلم بقوله «ماتوا من تكتبون لهم، عليكم أن تكتبوا للجيل الجديد أو استريحوا» حين كتب واسيني عن الروائية الجزائرية سارة ريفانس المشابهة لحالة أسامة المسلم «لمن أراد أن يقرأ هذا الأدب أن يتخلّص (مؤقتاً، زمن القراءة) من النموذج الكلاسيكي للرواية، حتى تكون أحكامه مؤسسة على الرغبة في الفهم وليس الحكم».


(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد