إجماعات مُفرِّقة

mainThumb

09-06-2024 01:40 PM

دخلتُ معترك الحياة مع أول دعوة تطلقها الحكومة لإعادة الحياة البرلمانية، وكنت كأي شخص، مهتم بعودة الحياة السياسية للشارع الأردني، ويتطلع لانخراط الشعب في صنع القرار الحكومي، وكنت أظن "وبعض الظن سذاجة" أن هذا سينشئ مجتمعاً واعياً سياسياً، بحيث نصل إلى الحرية والاستقلال وإدارة شؤون بلدنا بأنفسنا.

وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً، راقبت تفاعل الشعب الاردني مع الانتخابات، وبالأخص فئة العشائر، أو حتى أكون منصفاً، من يريدون أن يحصلوا على طموحاتهم بمنصب في الدولة عن طريق العشيرة!!
وإذا أردنا أن نحكم على تطور الحياة البرلمانية بموازاة تطور العشيرة، لوجدنا أن البرلمان صنع انتكاسة خطيرة في العشيرة من ناحية التماسك، لكن العشائر غفلت عن هذه الانتكاسة، وظنت أنها استفادت من دخول أبنائها في البرلمان، والاستفادة هنا يُمكن أن تعني الحصول على وظائف من الفئة الثالثة لأبنائها، لأن الاستفادة التي تتعلق بتماسك العشيرة، لتشكل رأيا موحداً تجاه قضايا الشعب، لم تحصل!! وظلت الحكومات تتلاعب بالعشيرة من وراء ظهرها أو من أمام عيونها دون أخذ رأيها، من خلال ممثلي الشعب الذين انتبهوا لمصالحهم الذاتية مهملين قضايا الشعب أو غير مدركين لخطورتها لأنهم مبهورون بالمنصب وبرجالات الحكم الذين سقطوا بينهم فجأة، أو مرغمون عن طريق تخويفهم ب(هَولُو) "هولو شخصية خيالية استخدمت في إحدى مسرحيات الرحابنة لتخويف الشعب من شيء غامض مخيف".

ثم هناك حقيقة ظهرت مع التجارب المتلاحقة للانتخابات، وهي أن العشائر بالمجمل لا يهمها الأداء البرلماني الذي يصب في مصلحة الشعب والدولة إن كانت تعمل لمصلحة الشعب، والكثير من العشائر يهمها من النائب، أن يكون واسطة للتوظيف، أو قائد جاهة، أو شخص مشهور يشاركهم مناسباتهم، فينتشون بوجوده "من باب تأثير الهالة لشخص يظهر على الاعلام"، ولأن هذه السلوكات لا تمت للأداء البرلماني بصلة، يبقى عضو المجلس المنتخب ليس له رأي ومكانة في مكان عمله "البرلمان"، ويظهر عمله الحقيقي -كما أريد له- في قيادة الجاهات بكل أنواعها.. فأدمن تلاوة خُطَبهُ على جمهور فَقَد حياته السياسية والاجتماعية، وبدل أن يتفرغ النائب لمراقبة أداء الحكومة ويحاسبها، صار يقضي ليله يحفظ القوالب اللفظية التي سيتلوها في الجاهات، ويطلق خياله "غير المجنح" في صنع أمجاد سالفة للعشائر التي أهملت حاضرها وانشغلت بماضيها، ولم تكتشف ضياع واقعها.

بعد كل هذه العقود التي مرت علينا ونحن نمارس الانتخاب، ونشهد صراع العشائر المستميت لإيصال أبنائها إلى البرلمان، حيث خاضت العشائر خلال هذه المدة صراعات مع الأقارب حصراً، فتمزقت العائلات، وتدابرت وتجذرت العداوات، والسبب الرئيس هو البرلمان.

الاجماعات العشائرية، كانت فكرة سامة سُرّبت للعشائر حتى تزرع في كل عشيرة بذرة الفرقة والخلاف، فالإجماع كفكرة يراها أصحابها أول الأمر كبيرة ومظلة تتسع الجميع وهي مصلحة للجميع، حتى إذا وصل شخص وصار يأوي إلى بيته وله خاصته، تحولت المظلة الجامعة إلى عباءة يشدها شخص النائب بكلتا يديه على بطنه، متمتعاً بامتيازاتها، والعشيرة تنظر إليه نظرات الحسد والبغض، تحصي عليه أخطاءه وتشيطنه عند كل انزلاق بسيط ينزلقه، عدا عن نشاط الطامحين للقفز مكانه، وهم كثر!!. فتبدأ الصراعات والتزاحم، فتتعارك الأطقم الإفرنجية مع الأطقم العربية، وتتصارع الأحرف المفتاحية في أول الأسماء، فالدال والميم والألف وغيرها تطغى على الألسنة، ولكنّ صراعها اكتشف كثيرٌ ممن خاض هذه اللجة، أنه لا يبتعد كثيراً عن صراع ذكور النحل للفوز بالملكة، وبمجرد أن يصل إليها واحدٌ تَساقط الباقون، ولك أن تخمّن بعد ذلك ما الذي يصنعه هذا الصراع والسقوط في المجتمعات من فرقة وتدابر، بل هو الآن ظاهر دون تخمين..

الغريب أن الأسطوانة السائدة عند العشائر في معمعة الانتخابات، أن المهم للعشيرة وأفرادها هو وصول اسم العشيرة وكفى، لكن بعد شهرين يفيقون من غفلتهم ويتوجهون إلى النائب الذي لا يستطيع حل مشاكلهم العالقة والتي تحتاج عملاً مؤسسياً، وتوجه من الدولة لحلها، والنائب عندنا صوري لم يأت إلى البرلمان ليقوم بهذا الدور الذي تمسك زمامه فئة تختبئ في المؤسسات لا تطلب منصباً بل تريد تحريك خيوط الدمى لمصالح تتعارض مع مصالح الوطن والشعب والعشائر التي تخلت عن مصالحها المُلحّة وترنمت على وقع تردد اسمها في البرلمان وكأنها تعيش في غربة أو هي أقليات في وطنها، وهي تفترش التراب الذي بدأت تفقده شيئاً فشيئاً لتمول الوصول للبرلمان.

أحداث غزة وما ننتظر من أحداث في العالم العربي، توضح لكل من له عقل، حجم المأزق الذي نحن فيه، وكل انسان مخلص عليه أن يسعى إلى بث الوعي عند الناس، وأن ما يسعى اليه أصحاب الطموح الشخصي المتصارعون ذوو "الأحرف والأطقم"، لا يقدم ولا يؤخر، وأن الناس إذا كانوا صفاً واحداً بعيداً عن ما يستعبدهم من منصب أو مال أو جاه.. ينهضون بمجموعهم وبوطنهم، ويخرجون من الواقع البئيس، باجتماعهم بوعي شديد على مصالحهم، التي يعبث بها أناس يريدونهم متفرقين، وكل فترة يرفعون لهم راية الفرقة، ثم عندما يكتشفون جهلهم ويجزمون أنهم لن يعودوا اليها، يرفعونها لهم ويعودون كما كانوا، وهذا العطل ليس في عامة الناس فقط، بل في من يسمون أنفسهم نخباً وهم يقامرون بمصالح الناس ومستقبل وطنهم وأبنائهم.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد