محرقة الكتابة في ظل الحروب

mainThumb

05-06-2024 08:36 AM

الكتابة محنة، قد يبدو ذلك للبعض ادعاء أو ترفاً زائداً، مع أن المسالة شديدة الخطورة وتبعاتها لا تحصى قد تنتهي باغتيال الكاتب أو الفنان. لهذا، فالمسالة جادة وثقيلة.
قليل من الكتاب من يضعون حيواتهم في الميزان ويندمجون في الصيرورة التاريخية والفنية للشرطية الإنسانية القاسية التي يعيشونها. وهل هناك أصعب من أن توضع حياة الإنسان في مهب الريح؟ في عزّ التقتيل الذي فرضته «القاعدة» و»داعش». كان جوابي يومها بسيطاً: في عز الإرهاب في الجزائر حينما كان التقتيل والذبح لغة القتلة الوحيدة يومها، وانهارت حياة الإنسان كقيمة متعالية فوق كل شيء، كتبتُ رواية [سيدة المقام] وأنا في حالة شبيهة باللاوعي، إذ كيف يمكن أن أكون «حاملاً لقطع رأسي» بيدي؟ لم تكن البدايات مطمئنة. فقد خافت من نشرها دور جزائرية [لافوميك] وقتها، وكان الناشر صديقاً وشجاعاً أيضاً ومنتصراً للحداثة، ولكن التهديدات كانت كبيرة؛ إذ لم يكن وقتها التطرف الديني قد انتقل نحو الاغتيالات.
ثم جاء دور [دار الآداب] عربياً لأسباب أمنية مفهومة، وكان المرحومان الدكتور سهيل إدريس والدكتورة عايدة في غاية الأسف؛ لأن دار الآداب البيروتية كانت قد صفت الرواية وهيأها للنشر، لكن الوضع الجزائري كان قد تعقد بشكل خطير، واللبناني أيضاً. وفي حوار نشر في مجلة دير شبيغل الألمانية، وقع بين يدي صديقي الشاعر العراقي والناشر خالد المعالي، صاحب دار «منشورات الجمل»، وأخبرني برغبته في نشر الرواية التي تحدثت عنها في المجلة، وهو ما تم بالفعل، ونشرت الرواية في ألمانيا/ كولون، في دار [منشورات الجمل] في حالة لا تخلو من غرائبية، نص عن أزمة الجزائر، ينشر في ألمانيا باللغة العربية ويترجم إلى اللغة الفرنسية قبل أن يوزع في بيروت؟ ويهاجر النص بعد ذلك بسنوات قليلة إلى الجزائر من جديد، وينشر في دار [المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ENAG وفي كتاب الجيب، في سلسلة Libre Poche في دار الفضاء الحرEspace Libre ويعود أخيراً إلى دار [الآداب]، مآله الأول والأخير. شيء غريب. في نهاية المطاف، كيف لنص صور يوميات فنان في مواجهة ظلم الصراع القاتل أن يصبح مطارداً ويلجأ إلى بلدان مختلفة وينفى قبل حتى منفى صاحبه.
الكتابة جمال ومتعة، لكنها، في عالمنا العربي، يمكنها أن تتحول إلى محنة، وليست فعلاً بسيطاً. أحسد من يكتب في عز الطمأنينة والراحة. عندما تكتب في عز معضلات الحاضر المعيش فأنت معرض لسلسلة من الإخفاقات، حيث يصبح الصمت قسوة أخرى وموتاً بائساً لا يطاق، ويظل النص محفوفاً بالمخاطر الكبرى: أولاً، كيف تسحب نصك من الآني والسياسي المباشر؟ كيف تحميه من مخاطر المباشرة والتعبيرات الأيديولوجيات التي تضعفه؟ كيف تحافظ على أدبية النص لأن الرهان الأكبر هو أن تُخرج النص من التبشير وتدفعه عميقاً نحو الفن؟ كيف تصبع الرواية تعبيراً يتخطى الجانب الفردي نحو الإنساني؟ كانت هذه هي الأسئلة المصاحبة لنص كان تجربة بكراً في النص المقاوم للتطرف الديني كما قال المرحوم الدكتور جابر عصفور، تناول بداية معضلات الإرهاب التي ظلت تتراوح، بالنسبة للوعي الجمعي المفقَّر حياتياً وثقافياً، بين الحركة الرافضة للفساد العام والإجرام. كان يجب تفكيك ذلك كله دون تسرع، ولكن في القوت نفسه كتابة شهادة فنية عن عصر صعب عاشته الجزائر. لهذا، كانت الخيارات الفنية والموضوعياتية شيئاً حاسماً ومهماً.
القصة لم تكن معقدة. قصة مريم، راقصة باليه (أول عتبة تضعها في مدارات التهمة بالنسبة للمتطرفين؛ كونها امرأة وسيدة جسدها، ثم كونها راقصة باليه يسحبها بالضرورة نحو فضاءات التهمة الأخلاقية، وقتها) تفشل في زواجها وتصاب برصاصة في الدماغ في أحد الأسواق الشعبية في مشادة بين المتطرفين والشرطة. ينصحها الأطباء بأن تتآلف مع رصاصتها في دماغها وتتوقف عن الرقص، ما كان يعني لها الموت النهائي. ترفض وتتفرغ كلياً لرقص الباليه. تتدرب على أداء رقصة [شهرزاد] في سيمفونيا/أوبرا ريمسكي كورساكوف، بالعنوان نفسه. تريدها أستاذتها أناتوليا أن تنجح في مشروعها، فقد كانت هي ركيزة باليه سيدي بلعباس ثم العاصمة. لكن المتطرفين يغلقون مكان تدريباتها في العاصمة في مشهد يكاد يكون جنائزياً، بحجة نشر الفساد. لكن مريم وأناتوليا مصابتان بشيء اسمه الإصرار على الحق في الفن والحرية. تواصلان على التدريبات في أمكنة ضيقة وتتحملان نتائج ذلك. تُطرد أناتوليا الروسية من الجزائر استرضاء للمتطرفين، بينما تصر مريم على التدرب في مكان صغير. وذات مساء، ترقص رقصة الموت لحبيبها وأستاذها في مدرسة الفنون الجميلة، بسبب الرصاصة التي ظلت تحملها في دماغها، تموت بين ذراعي حبيبها الذي أدرك بسرعة أن البلاد تسير نحو حتفها عندما لاحظ أن الأمطار التي كانت تسقط على جسر تيليملي كانت أمطاراً من دم [استشراف الحرب الأهلية التي لم تكن وقتها قد بدأت ولا الاغتيالات التي جاءت بعد ذلك بسرعة غريبة نتج عنها 200 ألف ضحية لا ناقة لهم ولا جمل، في صراع المصالح والترتيبات الدولية. وانتهى الأمر بهزيمة التطرف. الرواية تتوقف عند حدود أمطار الدم.
قاومتُ السياسي المباشر مقاومة شرسة؛ لأنه هو المآل الحقيقي للفن دون أن تفقد رؤيته الفنية والإنسانية قيمتها الأساسية. وانتميت للرواية والفن بدل السياسي الفج، لأنه هو الأساس في الكتابة الأدبية. الموضوعة المختارة [الباليه الفردي]، أبعد النص عن الآنية والمباشرة.
لَم أسأل يومها إلا نفسي وضميري، وتحملتِ الكتابة عن الممنوع والمخيف تبعاتها الفنية، بحيث لم تجد الرواية لها ناشراً، ووضعت الكاتب في دائرة المخاطر، مثل الكثيرين الذين انتهوا تحت الرصاص وسكاكين القتلة الذين لم يكونوا بلا هوية.
وعندما نشرت الرواية نشأ حديث آخر: كيف لكاتب معروف أن يتحدث عن الرقص والباليه والموسيقى والناس يموتون بالمئات يومياً؟ ويثير نعرات الجهوية البغيضة ويطالب بالاهتمام بالهوية الأمازيغية بوصفها مكوناً من مكونات المجتمع الثقافي من خلال شخصياته المركزية [فاطمة أيت عمروش، المايسترو محمد إيڨربوشن، أوبرا البربرية التي لا وجود لها إلا داخل الرواية] الناس أنفسهم الذين اتهموا الكاتب بالدفاع عن الحق الأمازيغي في التعبير، صفقوا لدسترة اللغة الأمازيغية بعد أكثر من عشر سنوات؟ لتبدأ رحلة أخرى مع الرواية، هي رحلة القارئ من القارئ المغرض إلى القارئ الفني. وتلك قضية أخرى أكثر تعقيداً.
هل الكتابة محنة؟ نعم، محنة تمحوها متعة الانتصار على الخوف والجبن.

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد