صحيفة السوسنة الأردنية

على مدار العصور، وجد الإنسان نفسه رهن التغييرات التي تطرأ حوله، دون أن يكون ضالعا بها، لكنه دوما مجبر على التكييف مع ظروف فرضت عليه، وإلَا سوف يكون بقاؤه مهددا بالفناء. ومن أصعب المواقف التي أصبح فيها مصير الفرد العادي على المحكّ هي، حقب الثورات الصناعية؛ ففي كل مرَّة تطرد الآلة، بشكل ممنهج، الإنسان من وظائف ألفها وأتقنها؛ ولهذا، كان يتعيَّن عليه في كل مرَّة أن يستخدم ذكاءه الفطري لإيجاد دور جديد بعيد عن سيطرة الآله؛ حتى لا يلاقي مصير الديناصورات في العصور القديمة، التي فقدت هيمنتها تدريجيا على الأرض والبشر، بسبب الذكاء البشري المتسارع، ما أجبرها على الانزواء بعيدا عن أنظار البشر الأكثر منها ذكاء، وأخيرا، انقرضت لأنها لم تستطع أن تساير مستجدَّات العصر.
وفي ما يبدو أن ما اقترفه البشر قديما من حملات إبادة جماعية شرسة، وإن كانت غير مقصودة، ضد الوحوش والحياة البرية، سوف يكون المصير نفسه الذي سيعانون منه في إطار ما يُطلق عليه حاليا «الثورة الصناعية الرابعة»، التي تم تعريفها بأنها أولا وأخيرا ثورة الذكاء الاصطناعي، وقفزاته غير المسبوقة ضد البشر، وكذلك الآلة نفسها؛ فالذكاء الاصطناعي يتطوَّر بسرعة مذهلة قد يعجز حتى بسببها مطوروه أن يدركوا إمكاناته المذهلة، التي تماري ما خُطط لها؛ ويرجع السبب في ذلك إلى شكّ مطوريه ولو بنسبة ضئيلة في إمكانية تبوُّؤ الذكاء الاصطناعي لأدوار شغلها البشر لحقب طويلة، بسبب تمتُّع الإنسان بذكاء خلَّاق، وقدرة على مجابهة الظروف الطارئة بأقل مخاطرة ممكنة.
لكن خلال العامين السابقين تطوَّرت الأحوال وانقلبت الأدوارر بسرعة مذهلة؛ وكانت بداية الغيث مع شركة «أوبن أيه آي» Open AI التي أعلنت عن برنامج «تشات جي بي تي» Chat GPT ذي القدرات المذهلة؛ الذي تحوَّل سريعا من كونه مجرد آلة رد على المكالمات الهاتفية ذات القدرات المحدودة، إلى وسيلة فعالة، ذات ذكاء يفوق الذكاء البشري، استطاعت التغلغل إلى جميع مفاصل الحياة والسطو على أدَّق أنواع الوظائف، ما سبب فزعا عالميا عارما من قدرات الذكاء الاصطناعي الخارقة، التي جعلت الأب الروحي له، وهو العالم جيفري هينتون Geoffrey Hinton يستقيل من منصبه، وهو يخشى أن يشجبه التاريخ كشأن مخترع الديناميت جيه روبرت أوبنهايمر J. Robert Openheimer الذي يساعد اختراعه المذهل في الفتك بالمليارات من البشر حتى يومنا هذا. وأكَّد جيفري هينتون، أن الذكاء الاصطناعي له القدرة على السيطرة على البشرية بأسرها، وجعلها طوع أمره، إذا لم ينتبه العالم لمدى خطورته، وأهمية اتخاذ التدابير اللَّازمة للسيطرة على قدراته المذهلة، تماما، كما استطاع العالم أن يسيطر على الآثار التدميرية المناوئة للديناميت.

ولعل أبرز مجال اقتحمه الذكاء الاصطناعي هو سوق العمل، الذي بسببه قد لا يجد البشر سبيلا لكسب أرزاقهم، وبالتالي الموت جوعا بسبب عالم لا يرحم؛ فأصحاب الأعمال يفضِّلون استخدام الآلة على البشر، بسبب رخص تكاليفها وقدراتها التي لا تجعلها تشكو من الإعياء أو المرض، أو حتى يكون لها ميل للمشاكسة والاعتراض. وفي الوقت نفسه، تحجم المجتمعات المتقدِّمة عن الإنجاب، أو حتى الزواج بسبب عدم القدرة المالية على تكوين أسرة والإنفاق على تعليم الأطفال في حقبة تتميَّز بغلاء الأسعار وشُحّ الموارد المالية. فقد اقتحمت الروبوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي شديد التطوُّر، جميع ألوان الوظائف تقريبا، سواء الدنيا منها، أو حتى التي تتطلب مهارات وذكاء إبداعي. ومن الطريف أنها تمكَّنت من إثبات نفسها في القطاعات الخدمية واللوجستية والنقل، بسبب وجود روبوتات لها القدرة على فرز الطرود. والنقل هنا لا نعني به عمليات النقل من مكان إلى آخر داخل المصانع أو المتاجر، بل أيضا النقل البرِّي؛ فهناك حاليا سيارات أجرة ذاتية القيادة. ودون شكّ، فإنها تكتسب ثقة العملاء يوما تلو الآخر؛ فهي تتمتَّع بالأمان التام والراحة المطلقة، حيث إنَّ قائد السيارة لا يمكن أن يضايق أو يتحرَّش بالراكب، وهو يعلم طريقه جيّدا. ناهيك عن ذلك، تتميَّز دائما السيَّارة بالنظافة والرَّائحة العطرة، مع وجود وسائط إعلامية متعددة للترفيه عن الرَّاكب طوال فترة الرحلة، حسب الرَّغبة، دون فرض خيارات.

ولم يكتف الذكاء الصناعي بالنقل البرِّي، فقد اقتحم أيضا مجال النقل الجوِّي بشدة، مع وجود طائرات بدون طيَّار ذاتية القيادة؛ وإن كانت تستخدم حاليا في نطاق محدود، سواء في أغراض عسكرية أو إعلامية، لكن من المنتظر قريبا أن تتوافر منها طائرات لنقل الرُّكاب؛ حتى لو وجد العنصر البشري على متن المركبة الجوية، سوف يكون دوره محدودا. واقتحمت الروبوتات المصانع، فأصبحت الماكينة الواحدة لها القدرة على أن تتبوأ مكان أكثر من مئة عامل، وإن كان ذلك متوقعا لحد كبير؛ حيث إن الثورة الصناعية الأولى والثانية، أو ما تعرف بالثورات الميكانيكية، كان أساسها إحلال العنصر البشري بالآلة. لكن ما هو غير متوقَّع، اقتحام روبوتات المجال الاصطناعي المجالات التي تتطلَّب ذكاء بشريا، أو قدرات إبداعية خاصة، فقد أصبحت الآلة محاسبا من الطراز الأول؛ فالآلة لها القدرة على مسك الدفاتر دون اقتراف أي خطأ، وكذلك يستلزم مسكها للدفاتر كبسة زر واحدة، بدلا من المحاسب البشري الذي قد يعمل بالأسابيع أو حتى الشهور لتنفيذ مهمة واحدة على أكمل وجه. وكان لاقتحام الروبوتات مجال التسويق، وتبوئهم لوظائف مندوبي المبيعات، أثر صادم على فئات عريضة من المشتغلين في هذا القطاع من كل الفئات؛ فالتسويق أصبح العصب الرئيسي لسوق العمل حاليا والوسيلة الوحيدة لكسب رزق وفير في أقل وقت. ولم يكتف القائمون على الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، بل أقحموا الروبوتات في مجال تحليل الأبحاث بأنواعها كافة، خاصة العلمية والطبية منها. وفي المستقبل المنظور، سوف تحلّ الروبوتات محل الأطباء بشكل واسع؛ فهي حاليا تبرع في مجال الجراحة واستئصال الأورام، لكن المقبل ينبئ بالمزيد.
أمَّا مجالات الفنّ والإبداع، فلم تسلم من الأتمتة، فالذكاء الاصطناعي يرسم لوحات، ويصمم إعلانات، ويكتب محتوى إعلاني أو صحافي جاذب ومحترف، وبكبسة زرّ واحدة؛ ولو كان ذلك متاحا حاليا على نطاق واسع ومجاني في كثير من الأحيان، فما بالك بما سوف يحدث في المستقبل. وكان إضراب جميع صنَّاع السينما والدراما في هوليوود أكبر دليل على هذا، فمع الذكاء الاصطناعي الواسع والمتعدد المجالات، سوف يتلاشى دور الإنسان، وبالتالي وجوده.
ولتأخير ذلك، نادى العقلاء في اجتماع قمّة دافوس DAVOS الاقتصادية لعام 2024 بعمل «ثورة إعادة إحلال مهارات» على غرار ما حدث إبَّان الثورة الصناعية الأولى والثانية؛ حتى يجد الإنسان دورا له وسط ذلك العالم المتطِّور والغريب، الذي قد يحبس الإنسان في زاوية معزولة لا يمكن الفرار منها إلَّا بالموت والفناء.