قانون المعقولية ومحاكمة إسرائيل دوليًا

mainThumb

09-01-2024 01:08 AM

كان القضاء البريطاني أول من ابتكر «حجة المعقولية»، ومنه انتقلت إلى دول أخرى من ضمنها كندا وأستراليا وإسرائيل. وقد استخدمت المحكمة العليا الإسرائيلية «حجة المعقولية» بشكل واسع ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، عبر سلسلة من قرارات المحكمة التي ألغت بموجبها العديد من القرارات والممارسات السلطوية وفي مجالات وقضايا متعددة.
ويتيح «قانون المعقولية» للمحاكم ممارسة الرقابة القضائية على أيٍّ من قرارات الكنيست، أو ممارسات أي ذراع للحكومة أو للهيئات الإدارية، بحيث تفحص المحكمة مدى معقولية هذه القرارات والممارسات، ثم تأمر بإلغائها في الحالات التي ترى أنها غير مناسبة، وتضر بالمجتمع والدولة. وبهذا المعنى، تشكل «حجة المعقولية» أحد الكوابح الحيوية المهمة، في وجه التعديات السلطوية (الشخصية والمؤسساتية) على سلطة القانون، وعلى مبدأ سيادة القانون والمساواة. (المصدر: مركز مدار).
وقد حاولت حكومة نتنياهو إجراء تعديل على قانون المعقولية، بحيث يقلص من صلاحيات المحكمة، ويعطي صلاحيات أكبر للحكومة والكنيست، وكانت تلك الشرارة التي أطلقت موجة عارمة من الاحتجاجات الإسرائيلية، وأظهرت مدى الانقسامات العميقة في المجتمع الإسرائيلي، انقسامات حزبية، وهوياتية، وأيديولوجية، ومجتمعية، قادت إلى سلسلة تظاهرات حاشدة امتدت نحو عشرة أشهر، وكادت تؤدي إلى حرب أهلية، وقد توقفت مؤقتاً بسبب الحرب العدوانية على غزة.
في تموز 2023، أقرّ الكنيست بأغلبية 64 عضواً تعديلاً على «قانون المعقولية»، وهذا التعديل يعني فعلياً تقليص «حجة المعقولية» وليس «إلغاءها»، كما يتردد خطأ في الإعلام. علماً أن اليمين الإسرائيلي حاول جاهداً «إلغاء» حجة المعقولية وليس مجرد «تقليصها». المهم أنه أدى إلى منع استخدام القانون من قبل المحكمة العليا في ممارسة الرقابة القضائية على قرارات الحكومة، ورئيسها وأي من وزرائها.
وردّاً على التعديل التمست منظمات وأفراد إلى المحكمة العليا ضد قانون إلغاء حجة المعقولية، ومن بينهم نقابة المحامين و»الحركة من أجل جودة الحكم» و»الحركة الديمقراطية المدنية»، إضافة إلى عناصر في الجيش وأعضاء كنيست سابقين وناشطين اجتماعيين، وركزت الالتماسات على أن التعديل يمس بصلاحيات القضاء، ويلحق ضرراً شديداً بـ»جوهر وجود دولة إسرائيل كدولة ديمقراطية»، ويساهم في تكريس وتعميق الفساد السلطوي، بما في ذلك قرارات وممارسات التطهير السياسي والتصفية الشخصية، مقابل التعيينات السياسية والشخصية، في الأذرع السلطوية المختلفة، ناهيك عن توسيع وتعميق التقليصات في حقوق الإنسان والمواطن والتعديات الرسمية المنهجية على هذه الحقوق، وبشكل خاص حقوق الأقليات، والأقلية القومية العربية الفلسطينية بشكل أساس ومباشر.
وفي شهر آب، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية أمراً احترازياً تأمر فيه الكنيست والحكومة بتقديم مبرراتهما لعدم إلغاء التعديل الذي أجراه الكنيست قبل ذلك، وذلك في أعقاب الالتماسات التي قُدّمت إلى هذه المحكمة ضد التعديل المذكور.
وكانت رئيسة المحكمة العليا «إستير حيوت» قد أحيلت إلى التقاعد في تشرين الأول الماضي، علماً أن فترة ثلاثة أشهر تُمنح لأي قاضٍ بعد خروجه إلى التقاعد من أجل إنجاز كتابة قرارات حكم قضائية لم يستطع إنجازها حتى موعد خروجه إلى التقاعد. معنى هذا، أن قرار المحكمة في الالتماسات بشأن «حجة المعقولية» سيصدر في موعد أقصاه كانون الثاني 2024. لذا يمكن القول: إن قرار المحكمة العليا بإلغاء التعديلات على قانون «المعقولية» لا علاقة له بالحرب وتداعياتها، لكنه حتماً سيكون له تأثير كبير.
وقد شكل قرار المحكمة صفعة قوية لنتنياهو وحكومته ولليمين الإسرائيلي عموماً، الذين عارضوا القرار، بحجة أنه يضر بمعنويات الجنود.
ما يهمنا هنا أن لتقليص حجة المعقولية، وللمركّبات الأخرى في «برنامج الإصلاح القضائي» الذي تواصل حكومة نتنياهو العمل على استكمال إقراره وتنفيذه، انعكاساً مباشراً على مستوى العلاقة مع الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة ومستقبل هذه المناطق. يتمثل في ما تخطط له الحكومة جهاراً نهاراً، بشأن ضم الضفة الغربية وبسط السيادة الإسرائيلية عليها بصورة رسمية، وزيادة الاستيطان، وتكريس الفوقية اليهودية في جانبَي الخط الأخضر، والإمعان في تجاهل وتحطيم حقوق الفلسطينيين، الجماعية والفردية، وجعل الأبارتهايد نظاماً رسمياً معتمَداً ومكرَّساً في كامل المنطقة الممتدة بين النهر والبحر. ذلك أن تقليص «حجة المعقولية»، سيمنع أي تدخل قضائي في أي قرار تتخذه الحكومة أو رئيسها أو أي من وزرائها في هذا الشأن.
لكن قرار إلغاء التعديلات على قانون المعقولية سيكون مفيداً لإسرائيل من جهة توفير الحماية للجنود والقادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين أمام الهيئات القضائية الدولية، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية. ذلك أن إسرائيل نجحت، وإلى حد كبير، في تجنيب جنودها وقادتها السياسيين والعسكريين تقديمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية أو محاكم جنائية في دول أخرى بتهمة ارتكاب جرائم حرب، عبر ادعائها الرسمي بأنها تطبق مبدأ «التتام» (Complementarity)، الذي يشكل شرطاً مركزياً للإعفاء من المحاكَمة الدولية. ويقضي مبدأ «التتام» هذا بأنه إذا كان لدى الدولة المعنية جهاز قضائي مستقل وقادر على التحقيق في هذه الشبهات بصورة جدية وموضوعية، وفي هذه الحالة تفقد المحكمة الدولية صلاحيتها بالنظر في جرائم الحرب، وتمتنع بالتالي عن اتخاذ إجراءات جنائية، أي إذا كان الجهاز القضائي في الدولة ذات الشأن (إسرائيل، هنا) يقوم بالتحقيق في الأحداث موضع الشبهات بصورة جدية وموضوعية، شريطة أن يكون هذا الجهاز القضائي وأداؤه مستقلّين، وهذا الأمر ما كان ينسفه تقليص «حجة المعقولية» من أساسه. (المصدر: مركز مدار).
في هذا السياق، تقدمت جنوب إفريقيا بطلب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وكانت قبلها بشهر قد تقدمت بشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية. وربما يكون هذا الحدث الأشد تأثيراً على إسرائيل، سيقلب الخارجية الإسرائيلية رأساً على عقب، وسيربك حسابات وزارة الدفاع ويجعلها تدخل في دوامة من المناقشات الحامية. وقد استعرض المدعي العسكري الإسرائيلي خطورة هذه الخطوة في إحاطة عاجلة أمام صناع القرار.
وتكمن الخطورة في الوصول إلى محاكمات شخصية لقادة إسرائيليين بتهمة ارتكاب مجازر جماعية في غزة. مع أن ذلك قد يستغرق وقتاً. لكن الخطورة القصوى من الدعوى هو استصدار قرار فوري من محكمة العدل بوقف عاجل لمجازر الاحتلال في غزة. وهذا سيفيد في تبني مجلس الأمن قراراً بوقف الحرب. وهو ما دفع إسرائيل لأول مرة في تاريخها إلى اتخاذ قرار بالمثول أمام محكمة العدل الدولية لتقديم ردها على الاتهام.

 

(الأيام الفلسطينية)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد