عندما تقاتل إسرائيل عسكرياً

mainThumb

13-12-2023 01:36 AM

بعد أن أُهين جيشها، وقُتل عدد كبير من مستوطنيها وجنودها، بدأت إسرائيل تروّج للعالم أنها تتعرض لخطر كبير، بل لتهديد وجودي.. وعلى الفور حركت أميركا حاملات الطائرات الأضخم في أسطولها، مصحوبة بالبوارج الحربية والطائرات المقاتلة، تبعتها بريطانيا، وحضر الرئيس الأميركي إلى تل أبيب، ومعه شيك مفتوح بمليارات الدولارات، تبعه وزير الخارجية ووزير الدفاع وقادة أركان الجيش، ثم تبعهم رؤساء الحكومات في أغلب الدول الأوروبية.. ثم أصدرت عشرات الدول بيانات تؤيد إسرائيل، وتدعم «حقها في الدفاع عن النفس»، وانعقدت البرلمانات، والمؤتمرات الصحافية المنددة بـحركة «حماس» والمتضامنة مع إسرائيل..
حتى مجلس الأمن، وسائر منظمات الأمم المتحدة بدت مستسلمة لأميركا ولإسرائيل واللوبي الصهيوني، وصار كل همها إدانة «حماس»، وتبرير المذابح الإسرائيلية بحق المدنيين العزل.
ثم انبرت كافة الوكالات الإعلامية والفضائيات وكبريات الصحف، وعدد من المؤثرين والإعلاميين للدفاع عن إسرائيل، وتشويه صورة فلسطين ودعشنة «حماس»، وشيطنة كفاحها الوطني.
فيما انبرت كافة محركات البحث وسيرفرات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي: «فيسبوك»، «إنستغرام»، و»تيك توك».. وصارت مسخّرة لخدمة الدعاية الإسرائيلية ومحاربة المحتوى الفلسطيني، والتضييق عليه.
ثم أعلنت كبريات الشركات والمصانع والمؤسسات عبر العالم عن دعمها لإسرائيل؛ أكبر الشركات التكنولوجية، وأهم مصانع الأغذية، وأشهر المشروبات الغازية، وأكبر سلاسل المطاعم، وبعض المؤسسات الحقوقية، وكبريات مصانع الأحذية والملابس، والعطور.. وغيرها.. وقدمت مساعدات عينية ومعنوية ودعائية لإسرائيل.
وفي بعض كبريات المدن الأوروبية والأميركية أضيئت الساحات العامة والبنايات الرمزية بعلم إسرائيل، حتى مبنى الأمم المتحدة أضيء بصور المحتجزين الإسرائيليين والأجانب الذين تحتجزهم «حماس».
في أوروبا منعت الشرطة المسيرات الشعبية المنددة بإسرائيل، وفي دول منها صار التعاطف مع الفلسطينيين قريناً باللاسامية، وحمل العلم الفلسطيني أو الكوفية جريمة، وكل من يطالب بوقف الحرب، أو ينتقد إسرائيل ولو تلميحاً تحت طائلة المساءلة والعقاب.
هكذا كانت الصورة في الأسبوع الأول من اندلاع الحرب، بدا العالم بأكمله مؤيداً لإسرائيل، ومندداً بـ»إرهاب» حماس.. وفي حقيقة الأمر الذي دافع عن إسرائيل ودعمها وبرر جرائمها الولايات المتحدة، والدول المنضوية تحت حمايتها أو ضغوطاتها، والمؤسسات والشركات والمصانع ووكالات الأنباء التي يملكها ويديرها اللوبي الصهيوني.. ولا شك أن ذلك كله يشكل قوة كبيرة ومهمة ومؤثرة ولا يجب الاستهانة بها.. قوة عسكرية وسياسية وإعلامية واقتصادية وقوة ناعمة.
لكن العالم الحر كانت له كلمة أخرى.. فبعد انكشاف زيف الدعاية الصهيونية، وانتشار صور المذابح وقتل الأطفال في غزة، بالتزامن مع حركة فلسطينية نشطة دبلوماسية وإعلامية.. بدأت الصورة تتغير، فخرجت المسيرات الشعبية الحاشدة في أغلب مدن العالم، وخرج برلمانيون وإعلاميون ومشاهير ومؤثرون ينددون بالجرائم الإسرائيلية، ويبدون تأييدهم لفلسطين، ولقضيتها العادلة، وبدأ العالم يتفهم أكثر جذور القضية، وحقيقة وجود الاحتلال، ومدى بشاعته وعنصريته، وبدأت بعض الدول تغير مواقفها، حتى أن 120 دولة صوتت لصالح فلسطين في الجمعية العامة، ودول أخرى سحبت سفراءها من إسرائيل، حتى أوروبا وأميركا نفسها بدأت تعدّل وتغيّر في مواقفها.
ولكن، مع أهمية هذا الحراك الشعبي العالمي، وضرورة استمراره، إلا أن إسرائيل لم توقف عدوانها، وظل الجرح الفلسطيني ينزف بغزارة، وظل شعب فلسطين مكشوفاً أمام تحديات جمّة ومخاطر جسيمة: سحق المقاومة، أو النجاح في شيطنتها ودعشنتها، وبالتالي نزع الشرعية عن كل الكفاح الفلسطيني، وتدمير غزة بالكامل، وتهجير سكانها إلى سيناء، ومن ثم نقل الحرب إلى الضفة، وتهجير سكانها أيضاً إلى الأردن، وصولاً إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً.
وهذا هو المخطط الإسرائيلي الأميركي، والذي تكشّف ليس بالممارسة فقط وفق ما شاهده العالم في مجريات الحرب، بل وأيضاً تكشّفت وثائق وخرائط ومراسلات تؤكد حقيقة وجود هذا المخطط.. لكن هذا لا يعني بالضرورة نجاحه.
وفشل هذا المخطط يعتمد فقط على استبسال المقاومة، وصمود الشعب فوق أرضه، ورفض التهجير مهما كانت الثمن، وتوحد الشعب بقواه وفصائله وجماهيره وقياداته بخطاب سياسي واحد وموقف موحد. أما الرهانات الأخرى فإما أن تكون مجرد إسناد ودعم والتقليل من حجم الخسائر، أو أنها لن تكون ذات جدوى.
والمقصود بالرهانات الأخرى: الرهان على «محور المقاومة»، أو على موقف الشارع العربي والإسلامي، والتظاهرات الشعبية في العواصم الغربية، وموقف الدول العربية والحليفة في الأمم المتحدة، أو الرهان على أخلاقيات وإنسانية الدول، وعلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.. كل هذا لن يفيد دون العامل الذاتي الفلسطيني، وفي أحسن الأحوال ستؤتي هذه الرهانات ثمارها على المدى البعيد، وأيضاً شريطة نضوج وحضور العامل الذاتي الفلسطيني. بمعنى أنها رهانات تصلح فقط لخوض مقاومة شعبية وحرب تحرير طويلة الأمد.. ولا تصلح لخوض حرب حاسمة، ولا حتى تصلح لإيقافها.
خلاصة القول، إن قوى العالم العسكرية والاقتصادية والإعلامية والسياسية تجندت بكامل أسلحتها وعتادها للدفاع عن إسرائيل حين أوحت للعالم أنها تتعرض لخطر وجودي.. وهذه القوى تراجعت بعض الشيء حين تبين لها أن إسرائيل لا تتعرض لخطر وجودي، بل إنها تخوض حرباً عدوانية غير متكافئة ضد مدنيين، وتمارس جرائم حرب.. لكنها ستعود لتتجند مرة ثانية إذا كانت إسرائيل فعلاً تحت تهديد خطر وجودي.
بمعنى آخر، محاربة إسرائيل عسكرياً تعني مواجهة منظومة دولية متكاملة، وليست مجرد حرب ضد الجيش الإسرائيلي، وهذه المنظومة ستدافع عن إسرائيل بشراسة لأنها مشروعها الأهم الذي أنفقت عليه تريليونات الدولارات.. وفي ضوء هذه المعطيات، فإن تفكيك المشروع الصهيوني يتطلب أدوات وأساليب مختلفة، ويحتاج عناصر قوة ليست متوفرة لدى الفلسطينيين، بل متوفرة لدى الدول العربية (النفط والغاز والثروات الطبيعية والمضائق المائية والعلاقات الدولية والقوة الاقتصادية والعسكرية.. إلخ). ويحتاج شروطاً دولية لها علاقة بالنظام الدولي ومن يسيطر عليه وطبيعة تحالفاته، وتغيير هذه الشروط أيضاً ليس بيد الفلسطينيين.. فهذا النظام لم يعد مقتصراً على توازن القوى العسكرية، وقد دخلت فيه عناصر مهمة وعديدة (الموانئ، الطرق التجارية، الأمن السيبراني، القوة التكنولوجية والصناعية، مصادر الطاقة وطرق تدفقها، التجارة الدولية، الردع النووي، الأساطيل البحرية..).
والوصول إلى مرحلة الانتصار يتطلب توظيف كافة عناصر القوة التي أشرنا إليها، لذلك الطريق ما زال طويلاً، وهذه مرحلة الصمود والثبات، وممارسة المقاومة لإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في الأجندات الدولية.. وهذه القوة الأهم التي يمتلكها الفلسطينيون. وهي من الأهمية بحيث تفرض نفسها مركزاً للصراع العالمي، والعقدة الأصعب في المعادلات الكونية، لأن فلسطين مفتاح الحرب والسلام في الإقليم وفي العالم.

 

(الأيام الفلسطينية)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد