لك الله يا غزة

mainThumb

19-10-2023 12:47 AM

يخطئ من يظن أن الأردن وفلسطين فريقان متضادان، فنحن قومٌ تربينا على حب فلسطين وعانقناها حباً، لتختنق الكلمات وتتبعثر حروفها كلما شاهدنا فيها سفك الدماء، وصور الأطفال بين هنا وهناك، وتحت الركام؛ تؤازرها الغصة المعهودة كما الأطفال حين تغني لحن الحياة، أطفالٌ لم يروا في شبق حياتهم لذة الحياة كما رأيناها نحن، لتستوقفنا هناك بعيداً في المساء مناظر الشهداء الأبرار بين النار وأزقة الشوارع، وتتجمد الدموع في مقلتي وتقاوم الانهيار متمسكةً بآخر خيوط رباطة الجأش في نفسي، لترهق قلبي المكلوم بمحاولات الصبر والتمسك بالأمل في الله، فما بين لوعة الحزن وتمسكي بالأمل في الحياة، أتمنى لأطفالك، ونساؤك، وشيوخك وأبطالك ولكل شبر من ثراكِ النجاة وأن يأتي ذاك اليوم الذي أرى فيك الشموخ بأم عيني، مطمئناً أن دماء الشهداء لم تضع هباءً، فهذه رئتي الثانية التي بها أتيم عشقاً وإليها أقدم كل دعائي في صلاتي.
لك الله يا غزة حتى ترضين، ولك الله متى رضيت يا ابنة أمي وأبي، وخالي وعمي، يا ابنة دمي الذي فرقته القبائل كما هو دمك، يا ابنة الحكايا التي لا تنتهي يا ابنة الريح اذ تهب شمالاً جنوباً وغرباً وشرقاً، وتقسم أن في كل اتجاه لها مقصدٌ وغاية ووجه فلسطينيٍ امتلأت تفاصيل وجهه بخارطة الوطن، وأمل النجاة، وهو ما زال يرقب منذ عقودٍ خلت أصوتاً تعلو بين حين وحين، لنسمع هنا وهناك كما الحلم وقع حوافرٍ في الرمل تسعى إلى الطمأنينة، فهناك تحط وهناك تحمحم مثل وعد طال انتظاره. العذر لله والعذر لك يا سيدتي، التي ولدت وهي تقاوم، وشبت وهي تقاوم، واقسمت أن لا تموت قبل موت الغزاة، إليك يا سيدتي يا من صنعت نجوماً من الأبطال، تحط أحلامهم في وطنٍ جميلٍ يشاهدون أقرانهم يتسارعون إليه عبر الشاشات، ولكن حلمهم مختلف، ورباطهم مختلف وعيونهم تقسم وهي تذرف الدموع، أن الوطن قائم، وأن زهرة الياسمين لا بد وأن تزهر هنا بين الرماد وعلى دماء الشهداء تروى.
أولئك الأطفال الذين هربوا من منازلهم إلى أماكن قد تكون أكثر أمناً، إلى فصولهم الدراسية التي كانت لهم دار علم وقبلة تعليم ثم ما لبثت أن تحوّلت لملاجئ، سرعان ما استهدفها الغاصب، فهرب منها من فرّ بطفولته ومات تحت رمادها من طالته قذائف المحتل. سرقت منهم طفولتهم فكبروا كما النهر يثقل بما يحمل مما شابه وسرعان ما يهرموا، فضاعت براءتهم خلف أسوار الغياب والحنين وأملٍ موعود، أصبحوا رجالاً قبل أوانهم يحملون الحزن على أكتافهم ويتحجّر الدمع في مقلتيهم، ويكبر الوطن حتى يتخطّى خارطة الكون، يصبح عرضاً يستميتون لأجله وهوية وجواز سفر. أولئك الأطفال الذين كانت حناؤهم دماء أقرانهم ممن ودعوا الحياة، إما تحت القصف فضل الإنقاذ عن جثثهم، وإما في المستشفيات لفظوا أنفاسهم الأخيرة بين فجيعة أم ثكلى، وأب خانته اللحظة فبكى ونحب واستعطف الجسد البالي أن يستيقظ ليكون حلماً وكابوساً، لكنه تآسى على ذلك وكان ما كان.
جراحٌ على الجسد يعضها الألم، ودماءٌ يعلقها القاتل على صدره حين يغتال المدينة كل ليلة، يرمي بصليةٍ إلى السماء ليقتل غيمةً قبل أن تلد المطر، يحبس الموج قبل أن يصل الشواطئ، يقلب الأرض والتراب قبل أن يعلن الغضب، غزة شغف الصغار وولادة أملٍ لا ينتهي، هي أنشودة البقاء في وجه ترنيمة الموت.
آآآهٍ يا وجع الحرف إذ يترنّح من الألم، يا همس الأشلاء المقهورة التي تكاد تصرخ من هول ما رأى أصحابها الفارّون من قبضة الموت إليه، آهٍ وكل تلك الكروم والجبال والسهول والمراعي تستنجد السماء لتتلّطف بأهلها، آهٍ وأولهم يصارع الآخر، ويتسعذر الموت، وأنت المغدورة لا حول لك ولا قوة. خذلك العائدون إلى التاريخ يرتدون ظلاله السوداء وراياته المزوّرة، لتغوص خناجرهم وتتفجر أحزمتهم الناسفة في قلب الآمنين، فكُلُّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكنكم لا تعودُون إلى أي بيتٍ. و هنا في غزة، للموت معنى غير التراب، وللحياة معنى غيردقات القلب.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد