أثر العولمة على الديمقراطية و حقوق الإنسان

mainThumb

25-08-2023 09:57 PM


يفترض بعض المتحمسين أن العولمة و الأقرطة _ اعتماد النظام الديمقراطي _ وجهان لعملة واحدة . و قد احتفل اللبيراليون وفق هذا الافتراض "بنهاية التاريخ " ، أي ببلوغ البشر النقطة الأخيرة للتطور الايديولوجي ، و وصولهم إلى المرحلة التي عُممت فيها الديمقراطية باعتبارها الشكل النهائي الأسمى و الأخير للحكم في التاريخ البشري . أو باكتساح الموجة الثالثة للمد الديمقراطي شطآن الحكم الاستبدادي . الأمر الذي دفع البعض إلى القول أن " الكل اصبح ديمقراطيا" و أننا نعيش عملية " عولمة الديمقراطية " .
صحيح أن الديمقراطية غدت المقياس الجوهري و للشرعية السياسية في جميع أنحاء العالم ، و أن الكل يدعي أن بلاده ديمقراطية ، و صحيح أيضا أن هناك اجماع واسع و راسخ في عالم اليوم على أن نظام الحكم الجيد يعني نظام الحكم الديمقراطي . لكن كل هذه الجوقة الاحتفالية لا تمنع من طرح سؤال مهم و معياري ألا و هو : ما الذي يجري للديمقراطية في العالم المعولم المعاصر ؟ و ذلك للافلات من الصبغة الدعائية للديمقراطية التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة و انهيار المعسكر الشيوعي ، والتي قادها المفكر الامريكي ( فرانسيس فكوياما ) في كتابه المشهور نهاية التاريخ و خاتم البشر _ و الذي تراجع عن الكثير من فرضياته فيما بعد _ و ذلك لدراسة أثر العولمة على الديمقراطية بشكل موضوعي خارج تلك الصبغة الدعائية .
و فق هذا المنطق ، يمكن لنا تحديد ثلاث تيارات أو اتجاهات تناولت موضوع أثر العولمة على الديمقراطية و حقوق الإنسان ، يمكن تصنيفها كما يلي
التيار الأول،و الذي يمكن أن نطلق عليه وصف تيار المد الديمقراطي ، حيث يرى هذا التيار _ و أهم منظريه المفكرين الامريكيين فرانسيس فوكوياما و صموائيل هنتنجتون_ أن الديمقراطية مدت موجتها الثالثة _ حسب تعبير هنتنجتون _ على شطآن 70% من دول العالم مع نهاية عام 1991م . فوفق هذا الافتراض احتفل "بنهاية التاريخ " ، أي ببلوغ البشر النقطة الأخيرة للتطور الايديولوجي ، و وصولهم إلى المرحلة التي عُممت فيها الديمقراطية باعتبارها الشكل النهائي الأسمى و الأخير للحكم في التاريخ البشري . أو باكتساح الموجة الثالثة للمد الديمقراطي شطآن الحكم الاستبدادي . الأمر الذي دفع البعض إلى القول أن " الكل اصبح ديمقراطيا" و أننا نعيش عملية " عولمة الديمقراطية " .
التيار الثاني: والذي يمكن أن نطلق عليه تيار الجزر الديمقراطي حسب وصف المفكر الفرنسي جاك دريدا الذي رد في توصيفه لواقع الديمقراطية في العالم اليوم على ادعاءات فوكوياما و هنتنجتون مضيفا إنها " وقاحة صادرة عن حسن نية" ، إذ لم يسبق _ و الكلام لدريدا_ للديمقراطية اللبيرالية ذات النموذج البرلماني أن كانت أكثر أقلية و انعزالا مما هي عليه الآن داخل العالم . و لم يسبق لها أن كانت على هذا الحال من السوء _ سوء السير _مثلما هي عليه الآن داخل ما نسميه بالديمقراطيات الغربية .
أما التيار الثالث، و الذي يمكن تسميته حسب رأي عالم الاجتماع الانجليزي الشهير أنتوني ، The Paradox of democracy جيدنز بتيار المفارقة الديمقراطية بمعنى انه في الوقت " الذي تنتشر فيه الديمقراطية في شتى أنحاء العالم ، ينتشر نوع من خيبة الأمل بشان العملية الديمقراطية في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة ، التي يجب على دول العالم تقليدها . و تشهد المجتمعات اللبيرالية الديمقراطية الغربية الآن موجات من الاحتجاجات و التستاؤلات ، حول الديمقراطية في عقر دارها .
و يرى العديد من الباحثين في هذا الشأن ، أن التفسير لهذه التيارات المتناقضة حول الديمقراطية ، بمدها و جزرها و مفارقاتها ، يتم عبر كلمة واحدة ، و هي العولمة ، حيث يرون أن العولمة حركت المد الديمقراطي ، و هي ايضا التي ردت الجزر الديمقراطي ، و بالتالي هي من خلقت مفارقة جيدنز الديمقراطية .
قد تبدو العولمة للوهلة الأولى أنها توفر امكانية لترسيخ دعائم الديمقراطية . و قد تبين أن العولمة تفتت السيادة _ سيادة الدول_ كما شهدنا على الدوام تأزما جوهريا بين السيادة و الديمقراطية . فالسيادة تنطوي على سلطة شاملة و عليا ، و غير محددة و حصرية ، في حين يُفترض عموما أن الديمقراطية تنطوي على سلطة محددة و مبعثرة او مقسمة و مشروطة و جماعية.و حتى عندما تُنتخب الحكومات بشعبية كبيرة يبقى احتمال الخطر في أن تركز السلطة في يد الدولة .و ينبغي عند هذا الحد أن يُقدم زوال السيادة من حيث المبدأ _ و هو من أفعال العولمة _ فُرصا لتوسيع مجال الديمقراطية . لكن الواقع يشير إلى أن العولمة جعلت الامور أسوا في أغلب الحالات . و يرى البعض أن العولمة تمثل تهديدا للديمقراطية على مستوى العلاقات الدولية و السياسة العالمية . و يبدو هذا التهديد في احتكار القوة في السياسة العالمية بيد قوة واحدة او قوى محددة كامريكا و الصين و بعض الدول الاوروبية الغربية و روسيا ، و في عدم ديمقراطية وكالات الحكم العالمي و السوق التجارية العالمية و المنظمات الدولية او الحركات الاجتماعية العالمية . بمعنى أن السياسة العالمية و العلاقات الدولية غير ديمقراطية . و يتمثل ايضا في أن بنية الديمقراطية على المستوى العالمي ليست متناغمة ، حيث يمكن التمييز بين نمطين من الديمقراطية : الديمقراطية الانتخابية المقتصرة على التعددية الحزبية و حق الانتخاب ، و هي النمط السائد في دول العالم الثالث او النامي . اما النمط الثاني فهو الديمقراطية اللبيرالية و التي تعني أولوية قيم الحرية السياسية و المساواة و الحريات المدنية و دولة القانون ، و هو النمط السائد في الدول المتقدمة .
و يقدم بعض المفكرين تفسيرا يعتد به للموضوع ، بربطه بفكرة نهاية التاريخ ، و سيادة و تعميم النموذج اللبيرالي الرأسمالي على شتى دول العالم ، و يرى أن نهاية التاريخ تعني " نهاية السياسة " . و كما هو معلوم أن مجال السياسة هو الدولة ، و الخطوة الأولى لنجاح العولمة هي التحرر من أقواس العمل و الدولة ، و ذلك لإطلاق سراح فاعلية الرأسمالية المنظمة تنظيما ديمقراطيا ، و التي كان تم ضبطها و ترويضها سياسيا و اجتماعيا ، بمعنى أن العولمة تؤدي إلى خروج السياسة من الإطار النوعي للدولة الوطنية ، و إزالة قيود الدولة الوطنية ، و الديمقراطية أحد أهم تلك القيود التي يجب إزالتها من أجل تغليب نخب السوق على نخب الديمقراطية . و ذلك من أجل اعادة صياغة قواعد جديدة للعبة الاجتماعية و السياسية ، تقوم على أساس ما يمكن تسميته ب " السياسة التحتية " و هي سياسة تُمارس دون تقديم طلب التماس أو استشارة من البرلمان ( قرار حكومي ، تغير قانون ، مناقشة عامة علنية) و بهذا تتحطم الاتفاقية التاريخية بين اقتصاد السوق و الدولة الاجتماعية الديمقراطية . و ذلك بتدمير الوظيفة السياسية المركزية للدولة و التي تتمثل في تحديد الاطار القانوني و الاجتماعي والبيئي و الديمقراطي، والذي لا يصبح العمل الاقتصادي ممكنا وشرعيا إلا بها .
و قد نجم عن هذا الواقع تدنيات مقلقة في مستويات الديمقراطية ، و سوقنة _ أي سيادة أحكام السوق التجارية _ نظام الحكم . و يصبح القول من هذا المنطلق ، إن الدعاة لمبدأ " دعه يعمل دعه يمر " _ أي مبدأ الحرية الاقتصادية _ يدَعون بأن السوق توسع مدى المشاركة و الاشراف الشعبيين . و هم يرون وفق منظورهم ، أن الديمقراطية العالمية تتحقق عندما يصوت المستهلكون و الراسماليون لا المواطنون بنفوذهم لا بأصواتهم الانتخابية من أجل الحصول على أقصى مردود لأموالهم لا تحقيق أقصى الامكانيات البشرية في أحد الاسواق العالمية لا في دولة اقليمية .
و في سياق متصل و من جانب آخر ، فإن تحليل العلاقات الدولية قد اعتاد على جعل الدولة هي وحدة التحليل ، و ربط كافة التفاعلات في المجتمع الدولي بها ؛ في حين أن العولمة تسعى لبناء تحليل قائم على أساس اعتبار المجتمع الدولي و الاقتصاد العالمي هو وحدة التحليل. و مع أن الدولة ما تزال الركيزة الاسياسية في العلاقات الدولية و المجتمع الدولي ، إلا أن قوى اخرى أصبحت تزاحمها و تشاركها لفعل الدولي مثل الشركات متعددة الجنسيات ، و المنظمات الدولية الحكومية و غير الحكومية و التي تمثل في معظمها محركات آلة العولمة . و تبدو المفارقة هنا أن العولمة أدت إلى ضعف الدولة ، في الوقت الذي لازالت الهيئة المركزية المُطالبة بحماية الديمقراطية و تطبيقها ، و حماية حقوق الانسان و صيانتها . فالمنظمات الدولية ، أو هيئات حقوق الانسان توجه دعوتها و تقيمها للديمقراطية ، و انتهاكات حقوق الانسان إلى الدول .
و خلاصة القول ، إن الديمقراطية تعاني اليوم وضعا حرجا و صعبا في جميع مجالات نظام الحكم المعاصر . و في عالم اليوم المعولم يجري وضع الأحكام و تطبيقها بشكل رئيس من خلال التنافس بين فئة النخة لا من خلال الديمقراطية التمثيلية ، ناهيك عن ديمقراطية المشاركة ؛ و لا يتضح في الوقت الحاضر ما اذا كان يمكن تحقيق الديمقراطية في المستقبل العولمي القادم لذلك فإن اعادة النظر في شأن الديمقراطية ، كما يرى بعض المفكرين باتت المهمة الاولى ، التي تنتظر النظرية الساسية اليوم .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد