الإرهاب والتطرف الديني مدخل نظري محاولة للفهم (1)

mainThumb

13-08-2023 04:06 PM

(نص محاضرتي ضمن فعاليات وزارة الثقافة لقاء المضافة الثقافي الأول في مضافة عشيرة بني هاني منطقة البارحة)

يروي القديس اوغسطين قصة قرصان وقع في أسر الإسكندر الكبير، الذي سأله " كيف يجرؤ على ازعاج البحر؟!" كيف تجرؤ على ازعاج العالم بأسره؟! فأجاب القرصان :لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فحسب، ادعى لصا، وأنت، الذي يفعل ذلك باسطول ضخم تدعى امبراطورا.

مما لا شك فيه أن عالمنا المعاصر، يشهد أحداثا و ظواهرا و مخاطرا تهدد حياة و استقرار الإنسان على سطح كوكب الأرض. الأمر الذي دفع عالم الاجتماع الانجليزي الشهير (أنتوني جيدنز) و عالم الاجتماع الألماني (اوليرش بيك) _في سعيها لتوصيف الأخطار و الظواهر و المخاطر التي تنتشر في في عالمنا و تهدد وجودنا كبشر _ إلى سك مصطلح "ثقافة المخاطر" Risk Cultar، و للتعبير عن واقع الحياة في العالم المعاصر.
و تتجلى ثقافة المخاطر تلك في مجموعة من الأخطار و الظواهر، كانتشار الأسلحة غير التقليدية، و المخاطر البيئية (كالاحتباس الحراري و ثقب الأوزون)، و و المخاطر السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و العسكرية (كالفقر و البطالة و غياب العدالة في توزيع الدخل العالمي و تراجع الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان، و و انتشار العنف و التطرف و الارهاب، و و انتشار الصراعات و الحروب داخل الدول و بينها في المجتمع الدولي).
على هذا الأساس و انطلاقا منه، فإن أي مقاربة موضوعية علمية لدراسة ظاهرتي الإرهاب و التطرف، لن تقدم تفسيرا أو تحليلا موضوعي أو علميا، ربما تقدم تحليلا أو تفسيرا مجتزءا إذا اعتمدت المنهج التجزيئي ( بمعنى دراسة ظاهرتي الإرهاب و التطرف من زاوية علمية واحدة كعلم السياسة مثلا، و أيضا دراستها كظاهرتين منفصلتين عن باقي الظواهر و المخاطر التي تهدد المجتمع الدولي المذكورة آنفا). و بالتالي فإن المقاربة العلمية و الموضوعية لتفسير و فهم الظاهرتين تتمثل في استخدام "المنهج الكلاني"،الذي يرى أن " الكل أكبر من مجموع أجزائه، و يركز على الترابطات و التفاعلات بين الوحدات (وحدات المجتمع الدولي كالمنظمات الدولية و الدول و المنظمات الإرهابية....).
و بالاستناد على المنهج الكلاني و انطلاقا منه،
فإن دراسة ظاهرتي الإرهاب و التطرف، ستكون قاصرة عن تقديم فهم عميق الظاهرتين، و إذا ما تم تناولها بعيدا عن الظواهر و المخاطر التي تهدد المجتمع الدولي، و بعيدا عن فهم سياسة الدولة في التعامل مع الحركات الدينية و غير الدينية، وبعيدا عن سياسات الدول العظمى و مصالحها و أهدافها و استراتيجيتها و سياساتها الخارجية و ترويجها لمفهوم للإرهاب).
بناء على ما سبق، و انطلاقا من منهج كلامي، و فإن ورقتي ستحاول الخروج من دائرة الرؤية الإخبارية للحدث كما يبين لنا علم الدراسات المستقبلية، فالاحتفال بالحدث لا يقدم لنا فهما علميا و موضوعي للواقع أو الظواهر محل البحث، و إلا إذا تحول لمجموعة أحداث، و تشكل ما يسمى وفق الدراسات المستقبلية (الاتجاه الفرعي)، و و مجموعة الاتجاهات
الفرعية تشكل ما يسمى ب(الاتجاه الأعظم) الذي يزودنا بالفهم الصحيح و العميق و الموضوعي الظاهرة.
على هذا الأساس و بالانطلاق منه سيتم تقسيم الموضوع إلى ثلاث عناوين رئيسية :
الأول : مدخل نقدي، و إشكالية المفاهيم و المؤشرات في دراسة ظاهرتي الإرهاب و التطرف،
الثاني: نقد تصنيفات الإرهاب (أنواع و أشكال)،
الثالث: مدخل تفسير لفهم ظاهرة إلصاق تهمت الإرهاب بالإسلام و المسلمين و ظاهرة
الاسلام فوبيا.
اولا: مدخل نقدي إشكالية المفاهيم و المؤشرات في دراسات الإرهاب و التطرف

عند الاطلاع على دراسات الإرهاب و التطرف، سواء على المستويين الدولي و العربي، و يلاحظ بروز اشكاليتين عمليتين :
الإشكالية الأولى : إشكالية مفاهيمية (تعريف مفهومي الإرهاب و التطرف).
بداية تجدر الإشارة إلى أن استخدام كلمة "إرهاب" لوصف تلك الظاهرة التي تصف (استخدام العنف بكافة أشكاله لتحقيق غاية أو هدف سياسي)، هو استخدام سياسي يحمل في طياته بعدا ايديولوجيا و استراتيجيا و مصلحيا، و ينطلق من و ينطبع بايديولوجيا و مصالح كيان سياسي، يمثل العالم الغربي عموما، و والدولة المركزية فيه الولايات المتحدة الأمريكية. و إلا لما تستخدم لفظة إرهاب؟! القانون بكل تفرعاته يستخدم كلمة "إجرام" و" جريمة" لوصف كل أشكال الاعتداء سواء على الدول أو المجتمعات أو الأفراد ماديا و معنويا. فلماذا إذن لا يتم استخدام القوة مصطلح " الإجرام الدولي" بدلا من مصطلح "الإرهاب الدولي"؟!! ألا يحمل استخدام كلمة إرهاب بعدا ايديولوجيا و سياسيا؟!! فالقانون الدولي مثلا في مجال الجرائم الواقعة على الدول و المدنيين يستخدم مصطلحات (كجرائم الحرب أو الجرائم ضد المدنيين...).
و لعل ذلك في رأيي ليس مصادفة و إنما هو فعل فاعل، و مقصود من قبل دول العالم عموما و الجوى العظمى خصوصا، لكونها لا ترغب في إطار قانوني و شرعي ينبثق من الشرعية الدولية و القانون الدولي، و يحدد و يحد من حريتها و حريتها السياسية في مجال إعلان الحرب تحت مسمى الحرب على الإرهاب و مكافحة الإرهاب، و في مجال تعريف الإرهابي و تحديد من هو الإرهابي و ما هو الفعل الإرهابي و ما هي أشكال الإرهاب؟.
بالإضافة لما سبق، تبرز إشكالية مفاهيمية تتعلق بتعريف المفاهيم في العلوم الإنسانية و الاجتماعية، فلا يوجد تعريف جامع مشترك لمفهومي الإرهاب و التطرف، و إنما تعريفات متعددة تنطبع برؤيا أو فكر أو تخصص أو مصالح الباحثين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو دول. و على هذا الأساس فإن ما يصنفه البعض إرهابا يصنفه آخرون حقا مشروعا في الدفاع عن النفس، و ما يعده البعض حقا في تقرير المصير لشعب تحت الاحتلال، يصنفه آخر إرهابا (نموذج حركات مقاومةالاحتلال كحماس و الجهاد الإسلامي و غيرها).
و من جانب آخر، فإن تعريف مفهوم الإرهاب لم يحدد لنا و لم تتفق على أشكال الإرهاب و التطرف (إرهاب الأفراد و الجماعات إرهاب الدولة)، ففي الوقت الذي يصف البعض ما يقوم به النظام السوري إرهابا، لا يتم تصنيف ما تقوم به إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني إرهابا من قبل الكثير من الأفراد و الدول خصوصا الغربية.
من هنا يلاحظ مدى الاظطراب في تحديد تعريف لمفهوم الإرهاب يتفق عليه الجميع دولا و مجتمعات و باحثين و مراكز دراسات، و يفوت الفرصة على أصحاب المصالح و الأجندات دولا و أفرادا و مراكز دراسات
في الاستخدام الأيديولوجي و السياسي للمصطلح، و الذي من خلاله تمت عملية تدمير دول و مجتمعات و حرمات سياسية أو عسكرية أو الاعتداء عليها تحت مسمى مكافحة الإرهاب. و تم السكوت عن أفعال دول و حركات و أفراد تحت مسمى الدفاع عن النفس.
و تجدر الإشارة في هذا السياق، و إلى أن الأمم المتحدة فشلت في إقناع الدول في تبني مفهوما موحدا لمفهوم الإرهاب، و ذلك بسبب تضارب الرؤى و المصالح بين دول العالم، لأن تبني مفهوما موحدا لمفهوم الإرهاب يفرض قيدا على حركتها السياسية و العسكرية و يترتب علية أضرارا بمصالها السياسية و العسكرية و الاقتصادية.
و في هذا السياق، و و في مجال تعريف مفهوم التطرف، و فالملاحظة الجديرة بالذكر، أن كلمة
"التطرف" عادة تأتي مرادفة لكلمة "الديني"، و الدلالة الفكرية و الأيديولوجية و السياسية في هذا الأمر واضحة لا لبس فيها، لا بل أن تلك الدلالة تزداد وضوحا باستخدام مصطلح "التطرف الإسلامي"، في الوقت الذي لا يتم الربط بين التطرف و أديان أخرى، و فلم نسمع عن تطرف يهودي أو مسيحي أو هندوسي.. أو تطرف علماني أو ليبرالي رأسمالي أو تطرف الحادي؟! في الوقت الذي تشير فيه الدراسات أن مسؤولية المسلمين عن العمليات الإرهابية التي ضربت الدول الغربية خلال السنوات الماضية من القرن الحادي و العشرين، لم تتجاوز 5'2%من مجموع العمليات الإرهابية التي استهدفت دول القارة الأوروبية، و في الوقت الذي تشير الإحصائيات إلى أن 98%من العمليات الإرهابية تمت بأيدي حركات مسيحية.
الإشكالية الثانية : إشكالية إجرائية عملية (تتعلق بوضع مؤشرات كمية موضوعية لقياشظس ظاهرة الإرهاب).
فعلى الرغم من ضخامة حجم الحبر المسال في سبيل الكتابة عن الإرهاب و التطرف، و الحديث عن خطورة الظاهرتين، الان انه لا يوجد مؤشرات كمية تتفق عليها مراكز الدراسات و الجامعات و الدول، تساهم في تقديم معلومات و أرقام دقيقة، و تيسر فهما أعمق للظاهرتين، و تسهل كشف حقائق الحركات الإرهابية و دور الدول و المجتمعات في تزويدها بالمجندين و المال و الأهداف، و خصوصا في الدول العربية و الإسلامية، و و ان المؤشرات العالمية لقياس الإرهاب غير شاملة و تعاني العديد من السلبيات و النواقص.
و لعل ذلك يعود كما سبقت الإشارة إلى الاستخدام السياسي و الايدلوجي للظاهرتين من قبل الدول، و إلى نقص المعلومات الدقيقة عن الحركات الإرهابية و الأفراد و مصادر التمويل و السلاح، و التي ترتبط بأجهزة الأمن و الاستخبارات الخاصة بالدول، و التي تحاط بالسرية اما لأسباب أمنية أو سياسية.

و هنا يجدر التأكيد على ضرورة بناء مؤشر كمي (إحصائية رقمي)، في الوطن العربي خصوصا و في العالم عموما، و لقياس ظاهرتي الإرهاب و التطرف، في سبيل تحليل هاتين الظاهرتين بشكل علمي دقيق بعيد عن الانطباعات الشخصية و التحليل الرغائبي الغرائزي، من أجل مساعدة الدول و المجتمعات و الأفراد و المؤسسات في فهم الظاهرتين و بالتالي مكافحتهما.
و بما اننا ندرس ظاهرتان انسانيتان، و من خلال مقاربة العلوم السياسية، و فإن منظري المنهج السلوكي في العلوم السياسية و العلاقات الدولية افترصوا أن " تكمي Quantification" ، بمعنى قياس الظواهر الاجتماعية و الانسانية رياضيا و احصائيا، و إعطائها قيما رقمية، مما يساهم في بناء مؤشرات تقلل من "مراوغة الظواهر الاجتماعية بشكل عام و السياسية بشكل خاص" و تجعل الباحث اكثر قدرة على فهم ملابسات الروابط غير المباشرة بين متغيرات الظاهرة موضوع البحث و الدراسة.

و في هذا السياق فإن الملاحظة الجديرة بالذكر، أنه على المستوى العربي لا وجود لمؤشر لقياس و دراسة ظاهرة الإرهاب و التطرف، مع كل ما يكتنف البيانات المعلومات حول الظاهرة من (عشوائية و رداءة البيانات عن العمليات الإرهابية، و التحيز المقصود في عرض البيانات على الجمهور و وسائل الإعلام، و و حجم السرية الكبير الذي تحيط الدول به كل ما يتعلق بالإرهاب و الإرهابيين أو التحقيقات في العمليات الإرهابية لاحظ السرية التي أحاطت بالتحقيق في 11 سبتمبر و النتائج التالية بعد العملية احتلال أفغانستان و العراق).هذا بالإضافة إلى أنه على مستوى الدول الغربية فإن معظم مراكز الدراسات التي وضعت مؤشرات لقياس ظاهرتي الإرهاب و التطرف تتبع لحكومات الدول مثل (مراكز الدراسات الأمريكية التي تتبع للبيت الأبيض أو المخابرات الأمريكية أو وزارة الدفاع الأمريكية، مما جعل المؤشرات محل شك كبير، و قاعدة بيانات الإرهاب العالمي GIOBAI TERROISM-DATABASE GTD، و و مؤشر مؤسسة بكرتون لخدمة المخابرات العالمية(PGIS)، و مؤشرات الإرهاب الدولي كمساهم في الحوادث الإرهابية المعروف اختصار (Iterate) و الذي طوره المحلل السابق و الباحث المتخصص في مكافحة الإرهاب في وكالة المخابرات الأمريكية إدوارد فرانسيس ميكوليس الابن و آخرون و غيرها.
مما سبق يمكن ملاحظة و استنتاج حجم الخلل في دراسات الإرهاب في العالم عموما و في العالم العربي خصوصا.

الجزء الثاني تبع
تمنياتي للجميع قراءاة ممتعة






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد