المواطنة في زمن العولمة

mainThumb

12-08-2023 03:54 PM


هل تعيد العولمة تشكيل مفاهيمنا ومسلّماتنا؟؟

مما لا شك فيه أن العولمة دخلت سياق حيواتنا بكافة ابعادها، و احدثت تغيرات جوهرية في طبيعة تجاربنا اليومية، و تحولات عميقة في مجتمعاتنا، و تغيرات جذرية في دولنا.
فآثار العولمة لم تعد خافية، و لا رجما بالغيب، و إنما مؤشرات يمكن قياسها و رصد أثرها و التغيرات و التحولات التي تحدثها في مجالات الحياة المتعددة؛و في تبديل و تغير العديد من المسلمات و المفاهيم و التصورات التي بنيت عليها نظرتنا للحياة و الأشياء، و التي اعتقدنا أنها ثابته لا يعتريها التبدل و لا يطالها التحول؛ حتى في أكثر الأشياء خصوصية، كنظرة الناس لأنفسهم و ارتباطهم بعضهم ببعض، و ارتباطهم بوطنهم.
فمفهوم المواطنة مثلا، و حسب التعريف اليوناني للمفهوم تعني ((المشاركة في إدارة شؤون المدينة/ الدولة))، بمعنى أن المواطن هو الشخص الذي يشارك في إدارة شؤون دولته. و مما لا شك فيه أن مفهوم المشاركة في إدارة الدولة، ينصرف إلى الانتخابات و الناخب، حسب المفهوم الديمقراطي للمشاركة؛ حيث يقوم المواطنيين بممارسة حقهم في إدارة دولهم عن طريق الترشح للانتخابات او التصويت فيها.
و مما لا شك فيه أيضا أن أول الآثار التي تركتها العولمة على مفهوم المواطنة، يتمثل في التحول الذي احدثته في مفاهيم و مسلمات الانتخاب و الناخب، حيث ساهمت العولمة في تحويل مفهوم جمهور الناخبين إلى جمهور جماعات ضغط ليست معنية بالوصول إلى السلطة بمقدار عنايتها بالوصول إلى تكييف مجمل النشاطات نحو مصالحها، الامر الذي قاد إلى تحويل جمهور الناخبين إلى اربع تصنيفات :الاول، هم الناخبين الدوليون، أي المرتبطون بالشركات متعددة الجنسيات او ما شكلها. أما الصنف الثاني فهم الجهويون، أي المرتبطون بانتاج على مستوى اقاليم جغرافية كاملة، مثل أوروبا و الشرق الأوسط، و جنوب شرق آسيا، و حوض الهادي… امأما الصنف الثالث فهم القوميون، أي الذين ينحصر اهتمامهم و نشاطهم في مستوى الدولة التقليدية. و اخيرا المحليون، و هم المرتبطون بأضيق حلقات الإنتاج.
و من هذا المنطلق يظهر أثر العولمة في مفهوم المواطنة، فقد أدت العولمة إلى ظهور نمطين من المواطنة، أو الانتماء السياسي، الأول، انتماء معنوي ناتج عن التماكن، أي التواجد في مكان؛ و ما يخلقه من ارتباطات لغوية و عاطفية و دينية، و الثاني انتماء مادي مرتبط بشبكة التفاعلات التجارية و الاقتصادية و السياسية و التنظيمية، كالمنظمات الدولية غير الحكومية مثل جماعات أنصار البيئة و غيرهم.
و كلما حدث تحول في شبكة العلاقات المعنوية و المادية من قبل جزء من اجزاء الكيان مع بقية الأجزاء، شكل ذلك تذبذبا في حدود الكيان؛ قد تتصاعد ليصبح ذلك الجزء اكثر انتماء إلى بنية تفاعلات الجديدة، من انتمائه إلى بيئة تفاعلات التقليدية القديمة.
أن العولمة جعلت حياة المرء ((المواطن)) الخاصة غير ثابته او غيرمرتبطة بالمكان (الوطن) بل حياة تنقل واقعيا و مجازيا في آن واحد. فهي شبيهة بحياة البدو الرحل؛ لأنها تقضى بالسيارات او القطارات او الطائرات، أو على الهاتف، أو شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، أو مع أجهزة الإعلام (التلفاز)، اذا فهي حياة انتقالي تمتد عبر الآفاق، أو الفضاء السبيرنتي، الذي هو على حد تعبير الجابري "" وطن جديد بحق، لا ينتمي إلى الجغرافيا و لا التاريخ، فهو وطن بلا ذاكرة، أو تاريخ، أو حدود؛ وطن تنتجه شبكات الاتصال المعلواتيه الإلكتروني.
ومفتاح دخول هذا الوطن و التنقل بين داخله و خارجه لم يعد هو جواز السفرpasspor الذي تصدره الدولة /الوطن، و إنما هو الرقم السري password الذي تمنحه الشبكة.
و المواطن في هذا الوطن السبيرنيتي، لا يتحدد بالانتماء إلى وطن، فالعولمة لا تعترف بالوطن، و لن تتحدد بالمساهمة في تدبير شؤون الوطن، و إنما في الحق في الإتصال، فأن تكون مواطن يعني أن تكون متصلا أن تكون على الخط او الشبكة. و من هنا برزت التسميات أو الأوصاف الجديدة للمواطن، فهو "نيتويان" أو "نيتنيزم" نسبة إلى "نت" و من "انترنت".
و في الإطار ذاته، و في سياق آخر، يرى البعض "ظهور هوية عالمية تقود إلى حمل العديد من الناس أن تفكر و تتصرف كمواطن عالمي" (Citizen of the world) اي حرفيا بإعتبار "كوزموبوليتانيا" بمعنى مواطنا عالميا. و يضيف معجم أكسفورد إلى تعريفها معنى "التحرر من القيود و صور الانحياز الوطنية". و هذا بالطبع يزعزع مفهوم المواطنة التقليدي، و يخلق مجالات الانتماء و الهوية، خارج حدود الوطن و الدولة.
و في مقابل هذه المواطنة الكوزموبوليتانيه، التي اوجدتها العولمة، فإنها ادت إلى ظهور هويات قبلية و عرقية و اثنية ما دون الهوية الوطنية او القومية، قادت إلى زعزعة مفهوم المواطنة أيضا، بحيث غدا العديد من البشر يعرفون ذواتهم على أساسها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد