هوليوود والعبث بالتراث العربي

mainThumb

12-12-2022 03:15 PM

للسينما الأمريكية قدرة عجيبة على إقحام قصاصات من التاريخ والأدب العربي والإسلامي لتعطي صورة نمطية للغرب عن أمتنا، ويجري ذلك بطريقة فجة نازعة إلى التحريف. تسيء هوليوود في أعمالها إلى خصومها، فالبحار خير الدين بربروس والي الجزائر تحت راية العثمانيين، استلهمت منه هوليوود شخصية القرصان الشرير في سلسلة قراصنة الكاريبي.
وفي الفيلم الأمريكي الشهير « Dracula Untold»، يظهر القائد العثماني محمد الفاتح على أنه ذئب طاغية، يقوم بالمجازر الجماعية عن طريق الخوزقة، على الرغم مما عرف عنه تاريخيا من السماحة والتسامح، وفي مقابل ذلك تظهر شخصية الأمير الروماني فلاد الثالث، التي يؤديها الممثل لوك إيفانز، على أنه شخص مناضل يكافح ظلم العثمانيين، مع أنه تاريخيا يسمى فلاد المخوزق، لاتباعه هذه الطريقة البشعة لقتل خصومه، ومنهم عشرات الآلاف من العثمانيين، ويتلذذ بالقتل، حتى إن شخصيته أصبحت نواة لأفلام مصاص الدماء دراكولا.
لم يسلم التراث العربي من عبث هوليوود، ومثالا على ذلك تحريفها لأحداث تتعلق بأدب رحلات الرحالة العرب، وهي رحلة ابن فضلان، فمنذ حوالي عقدين من الزمان، عرض لنجم هوليوود الممثل الإسباني أنتونيو بانديراس، فيلم سينمائي بعنوان The 13th Warrior، يجسد فيه دور «أحمد بن فضلان» شاب عربي مسلم من بغداد، ابتعثه الخليفة العباسي إلى بلاد الصقالبة على سبيل النفي (وفقا للفيلم)، فعاش بينهم وتعرف على عاداتهم وخاض معهم حروبهم، وتأثر بأخلاقهم رغم وثنيتهم. الملايين من العرب ممن شاهدوا الفيلم، اعتقدوا أنها شخصية من نسج خيال المؤلف، ومن بينهم أنا قطعا، ولكن بعد أن بدأت رحلة المطالعة، أدركت أن أحمد بن فضلان شخصية حقيقية لها ذكرٌ كبير في أدب الرحلات. لأحمد بن فضلان كتاب يوثق فيه تفاصيل رحلة طويلة عجيبة، عرفت في أدب الرحلات بعنوان «رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخرز والروس والصقالبة». انطلق ابن فضلان يوم الخميس 11 صفر سنة 309 هـ، الموافق 21 حزيران/يونيو سنة 921م، برحلة شائقة بتكليف من الخليفة المقتدر العباسيّ الذي طلب الصقالبة العون منه. واستغرقت الرحلة أحد عشر شهرا في الذهاب، وكانت مليئة بالمغامرات والمشاقّ والمصاعب السياسية والانفتاحات على الآخر المختلف ثقافيا. والصقالبة، كما يذكر الدكتور سامي الدهان محقق رسالة ابن فضلان، هم سكان شمال القارة الأوروبية، وكانوا يسكنون على أطراف نهر الفولغا، وتقع عاصمتهم بالقرب من (قازان) اليوم في خطّ يوازي مدينة موسكو. وكان وفد الخليفة المقتدر إلى ملك الصقالبة يتكوّن من أربعة رجال أساسيين وبضعة مرافقين من الفقهاء والمعلمين والغلمان. تكمن أهمية رحلة ابن فضلان في أنها وثقت الأنماط المعيشية لشعوب قل من سجّل عنها، وهي الشعوب الصربية والروس على وجه الخصوص، فهي تسد فجوة معرفية تاريخية في هذا الباب. وعن أسباب القيام بهذه الرحلة، يقول ابن فضلان نفسه في مطلع رسالته: «لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له فأجيب إلى ما سأل من ذلك». ولست هنا بصدد الاسترسال في تفاصيل رحلة ابن فضلان الغريبة ذات المشاهدات العجيبة، ولكن ما أرومه في هذا المقام، كيف تناولت هوليوود شخصية ورحلة أحمد بن فضلان في الفيلم المذكور أعلاه.
يزعم العمل السينمائي في بدايته أن أحمد بن فضلان غازل امرأة لأحد كبراء القصر العباسي، فشكاه إلى الخليفة، الذي أراد نفيه بأسلوب دبلوماسي، فابتعثه سفيرا إلى الصقالبة، في حين أن أحمد بن فضلان ابتعثه الخليفة مع وفد بناء على طلب من ملك الصقالبة بهدف تعليمهم شرائع الإسلام وبناء مسجد وبناء حصن لحمايته من ملك الخزر، كما ذكر ابن فضلان. أظهر الفيلم ابن فضلان في شخصية العربي الضعيف الجبان في القتال مقابل الشجعان من الصقالبة، الذين كانوا في قمة الجلد، ولا يهتزون في ذروة المعارك، ومع الوقت بدأت الشجاعة تتسلل إلى شخصيته.
أما في رحلة ابن فضلان التي لم يذكر فيها أنه شهد حروبهم خلافا للفيلم، فيظهر منها مدى تأثيره هو فيهم، إذ كان يأمرهم وينهاهم، فمثلا عندما قرأ عليهم كتاب الخليفة «سلام الله عليك..» أمر ابن فضلان ملك الصقالبة وأتباعه برد السلام. كما ظهر تأثيره فيهم كداعية إلى الإسلام، فملك الصقالبة وأتباعه، دخلوا في الإسلام لكن لديهم عادات غريبة من بقية الوثنية، وكان ابن فضلان يعلمهم ويؤثر فيهم، ومن ذلك حكايته عن عاداتهم السيئة بقوله: «وإذا مات منهم الرجل ورثه أخوه دون ولده، فعرّفت الملك أنّ هذا غير جائز وعرّفته كيف المواريث حتى فهمها». لكن العمل السينمائي أصر على تأثر ابن فضلان بهم، ومن الغريب في هذا الصدد أن الفيلم يصور ابن فضلان أنه أقام علاقة مع إحدى النساء على عادة الإباحية في أهل الشمال حينها، فعلام استندوا والمرجع الوحيد الأساس هو ما دونه ابن فضلان ونقله عنه المؤرخون؟ وقطعا لم يذكر ابن فضلان شيئا من ذلك حتى على فرض أنه فعله. الفيلم يجسد نظرة الغربي للعربي، والصورة التي يراد أن يظهر بها العربي، من أنه هو الأضعف وأن الغربي هو صاحب التأثير، وليس في هذا غرابة، فالفيلم مبني على كتاب لميكائيل كريكتون أصدق ما يوصف به أنه رواية، بعنوان: (أكلة الأموات: مخطوط ابن فضلان عن خبرته بأهل الشمال في عام 922 ميلادية»، حيث اختلط فيه البحث العلمي والتاريخي بخيال الروائي، وهنا كيركتون، جمع القليل جدا من التفاصيل الحقيقية وصاغ الباقي كلّه وفق مخطط روائي مختلق، وهذا بالضبط ما وصفه به النقاد الأمريكيون، إذ قالوا عن الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي إنها كتابة متخيلة لقصة مأخوذة من سفير عربي في بلاط الخليفة في بغداد.
شيء عجيب حقا، أن تأخذ السينما الأمريكية صفحات من تراثنا وأدبنا وتاريخنا، فتعبث به، ثم تقدمه لنا في قالب درامي، ذلك لأننا لا نقرأ، ولا نولي هذا التراث العتيق اهتماما، وتلك هي مسؤولية النخب الثقافية التي ينبغي أن تكون جسرا بين هذا التراث والجماهير، وليت صناع السينما يستشعرون المسؤولية الاجتماعية والثقافية، وينهلون في أعمالهم من أدبنا وتاريخنا ليعرض للجماهير بصورة حقيقية بعيدا عن العبث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد