يمهل ولا يهمل

mainThumb

27-08-2022 08:10 PM

في صباح ربيعي مشرق دافئ بهيج : الشمس تشيع الدفء بعد ليلة ماطرة ونسمات عليلة تهب من الغرب تداعب اغصان الشجر التي اهتزت اهتزازا خفيفا ، في ذاك الصباح أنطلق قاسم وعائلته : زوجته وأطفاله: هدى وخالد و عباس كانت هدى في الخامسة عشرة وخالد في الثانية عشرة وعباس في التاسعة :
وانطلقت السيارة تنهب الأرض نحو الأغوار حيث موسم الرحلات والربيع الخصب .... وبعد ساعة ونصف وصل قاسم وعائلته الى منطقة تعج بالناس ونزلوا قريبا من موقع قد ضرب عليه شيك من الاسلاك الشوكية وقد علق عليه لوحات تحذيرية "أبتعد خطر الألغام". كانت الألغام مبثوثة في قديم الزمان لكن قامت بعثة دولية بمسح المكان وانتزعت الألغام واعلن المكان ليس آمنا لوجود الغام قد تكون قديمة منذ زمن الانتداب البريطاني .
جلس قاسم على بساط ربيعي وجلست زوجته قريبا منه واخذ ينظر الى جبل بعيد قد غطا الغمام : فضحك . فسالت زوجته ما الذي اضحكك؟
قال: تذكرت حكاية قديمة عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري وقعت في سفح ذاك الجبل: قالت زوجته احكيها لنا فنضحك معك!
قال:" تعرفين ان والدي كان لا يحب ان يسكن القرى وكان عنده شلية من الاغنام ويختار الأماكن الجبلية ذات المراعي الخصبة فأقام في تلك السنة بعد انتهاء الشتاء في روضة تقع خلف ذاك الجبل، وفي يوم ارسلني لجلب بعض الحاجات من البلد فركبت حمارا وتوجهت الى البلدة . ومررت ببيت عمي هناك ورجوت عمي ان يرسل معي ابني عمي “ سيف كان عمره 15 وفهيد 13 . انطلقنا عائدين الى بيتنا في الروضة.. سرنا في الوادي الجاف الذي يمر اسفل الجبل ... وفي الطريق كنا نلهو بجمع ثمرات الدوم ... وكنت اضع كمية من حبات الدوم في فمي واخبر ابني عمي عن عددها و كانت مطابقة للعدد الذي اخبرتهم ! فنضحك جميعا ، فقالت الزوجة : ما شاء الله عليك ... هذا لا يثير الضحك ... فقال لها اسمعي القصة للنهاية وستدركين لماذا اضحك... انا اضحك من الخرافات والدراويش ... اسمعي .... ولما اشتد بنا العطش اضطررنا ان نقصد نبع ماء في اسفل الوادي. وصلنا النبع ... كان الماء متجمعا في بركة صخرية مربعة طبيعية لم يحفرها انسان ... كانت بركة صغيرة لا تزيد مساحة سطحها عن عشرة امتار
كان يسيل في تلك البركة جدول ماء يجري فوق الحصى والصخور ... كان الماء صافيا رقراقا يجري محدثا خريرا من أروع أنغام موسيقى الطبيعة ... شربنا الماء مباشرة :انكب كل واحد منا قريبا من حافة البركة وغببنا الماء غبا حتى ارتوينا .فالإنسان عندما يكونا عطشانا سائرا على الاقدام عدة اميال فإنه ينكب عل الماء يغبه ولا يعرف حلاوة تلك التجربة الا من عاناها ! لقد امتلأت معدة كل واحد منا بالماء فحلسنا نرتاح في ظل صخرة شاهقة ... وفجأة سقط ذرق طائر على رأسي . فنطرت الى اعلى الصخرة فإذا وكنة حدأة-"حودة" في اعلى الصخرة .. لقد امتلأت غيظا عندما أخذ ابني عمي يضحكان مما حدث لي فقررت "التعمشق" على الصخرة ، فخلعت نعليَّ واخذت اتسلق الصخرة حتى وصلت العش فوجدت فيه " أربعة " افرخ قد اكتمل ريشها فأخذت تزعق لكني تناولتها واحدا واحدا ورميتها ارضا ، فقال سيف : هذه طيور كالبومة لماذا انزلتها من العش ! فقلت هذه الليلة ٍاذبحها وأشويها للعشاء ...
راينا طائرا يجوب السماء مذعورا ... فقلت هذ الحدأة لنرحل . ملأنا قربة ماء صغيرة ثم انطلقنا . كانت الطيور التي معنا تزعق فيسمعها طيور البوم فوق الصخور المتناثرة على سفح الجبل فتزعق طيور البوم : تحتج على اسرنا لفراخ الحدأة ،وصلننا خربوش والدي عند المغرب. صعق والدي وقال بحدة " ما هذا ؟هذه فراخ الحودة ، الليلة ستهاجمنا أمها ! هيا اعيدوها. ومن خوفنا من والدي اضطررنا ان نعيدها... سرنا في بطن الوادي قافلين نحو عش الحدأة
وصلنا العش وقد خيم الظلام الشديد على ذلك المكان الموحش . فتناولت اول فرخ وكسرت جناحية وابن عمي فهيد يتشبث بي ويصرخ باكيا ... لا...لا تكسر جناحيها .... خاف الله ! لكني بكل غل كسرت اجنحتها وقذفت بها إلى العش .... وفي عودتنا كادت الضباع ان تسطوا علينا لولا ان والدي تداركنا واطلق النار عليها من بندقيته ... لكن المضحك ان ابن عمي فهيد اخذ يبكي قائلا : " إن الله سيكسرني كما كسرت اجنحة الفراخ! وعندما سألته كيف عرف ذلك فقال ان امام المسجد الشيخ " فلاح" القى درسا عندما شاهد أطفال القرية يخرجون فراخ العصافير ويذبحونها ثم يقلونها بمقلاة امام نواظر اماتها وقال : تصورا يا ناس ان مخلوقا جبارا يذبح اطفالكم ويلتهمهم امام نواظركم! وانت فعلت فعلا لا يغتفر : كسرت اجنحتها وهذا تعذيب لها" فأخذت اضحك وانا اليوم اضحك وكلما شاهدت ذاك السَفْح اضحك فقد مضت سينين طويلة ولم يحدث لي شيء ..... والان لنحضر الشواء من اجل الغداء ....
قالت الزوجة : يا قاسم نحن لم نحضر السكر والشاي والملح معنا فلم لا تذهب الى اقرب بقالة وتحضر ما يلزم . فقال: "نعم سأذهب لكن ناوليني محفظتي من السيارة ففيها النقود" .. اسرعت الزوجة نحو السيارة واخرجت المحفظة ... فتحتها واخرجت النقود منها ... ولم تمسكها بأحكام... فتي تلك اللحظة هب قاصف من الريح فتطايرت الدنانير من يدها واستقرت في حقل الألغام المهجور .... فاندفع قاسم وراء الدنانير وصرخ به الناس ارجع ارجع ... الغام الغام ....لكن انفجر لغم تحت قدميه فقذفه في عاليا في الهواء ... وشوهد مترنحا ذات اليمين وذات الشمال في الهواء والدخان الأبيض والأسود يلفه ثم سقط ارضا نازفا دما غزيرا.. حضرت سيارة اسعاف ونقل الى مشفى قريب حيث بترت قدماه ، وفي المساء حضر اليه ابن عمه فهيد الذي أصبح رجلا ناضجا .. قبل جبين قاسم وجلس قريبا منه .... فقال قاسم مبتسما بألم: يا فهيد صدقت .... ا لان تراودني صورة فراخ الحودة التي كسرت اجنحتها! والان ايقنت أن الله يمهل ولا يهمل!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد