بقلم / عبد اللطيف مهيوب العسلي
المعرفة تبدأ -أولا - بأن تتعرف على نفسك ،
لأنك لن تستطيع أن تحيط علما بربك ،ولكن احط علما بنفسك وبما يليك من ربك ..
فأول ما خلق الله هذ الإنسان الموسوم ب(آدم ) -عليه السلام - عرفه على نفسه بعد أن أفاض عليه من علومه التي لا تحصى فكان الله هو من بدأ تعليم الإنسان اللغة التي من خلالها يستطيع أن يربط ماضيه بحاضره وحاضره بمستقبله ،ويربط العلاقة بينه وبين أبناء جنسه وبينه وبين بقية المكونات ( الله الكون الإنسان ) ،
ثم علمه كيف يستفيد من الجانب الإيجابي عنده ويركز عليه فقال له أنبئهم بأسمائهم ،وهكذا أشهر آدم نفسه
قال تعالى :
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ) البقرة ).
ولما أنبأهم بأسمائهم استحق رتبة المعلم ،واوجب الله له عليهم التكريم فأمرهم بالسجود له فامتثلوا أمر الله وأبى إبليس ..
ولكن الإنسان لديه جانب سلبي غير إيجابي من جهة جسده الطينية وشهوته النفسانية ، وهو ما ركز عليه الملعون إبليس وتجاهل الجانب الأخر الإيجابي متعللا بأن جسد آدم من طين ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) الأعراف )
فلبس إبليس الباطل بالحق ،والكذب بالصدق كمن ينظر إلى نصف الحقيقة ولا ينظر للحقيقة كلها ،لقد تجاهل المرتبة العقلية التي بها أدرك آدم العلوم التي لا حصر لها من علوم الدنيا والأخرة، ولأجلها أمرت الملائكة له بالسجود ،
وتكبر على الله وتمرد (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) فلا مقارنه في الحقيقة بين الطين وآدم بصورته الحالية .. واغتر إبليس بنفسه. وكفر ،والكفر هنا هو تغطيته المحاسن التي أظهرها الله على لسان ( آدم ) بشاهد الحال والمقال من العلم والمعرفة والعجز أن يأتوا بما علم به آدم ،وتغطية المحاسن الإلهية المتمثلة بقدرة الله وإرادته التي بها خلق ويخلق وأحيى ويُحيي وأمات ويُميت .
ولأن هذ الموقف الأول عرف آدم قدرته وامكانياته وكيف يستخدمها ،وهو الجانب الإيجابي المشرق والأهم ،إلا أنه لديه الجانب الآخر (السلبي ) الذي راهن عليه إبليس
وحتى تكتمل معرفة آدم لنفسه قال له سبحانه وتعالى : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) البقرة )
ولما أمره أن يسكن الجنة تمكن من التعرف على الجانب الآخر السلبي
فأذاقه نعمة الطاعة والرفعة والتكريم بداية (وكلا منها رغد حيث شئتما ) فأقبل نحوها ( مطيعا ).
وأذاقه نقمة العقوبة والمعصية التي دعته إليها نفسه من طريق جسده وشهوته والشيطان (عاصيا ) حيث قال له ربه لا تأكل منها فأكل ..لذلك سميت الطاعة حسنة ،وسميت المعصية سيئة لما يعقب كل منهما ..
وبهذا اكتملت معرفة آدم لنفسه ،
وتبين له نقط ضعفه ونقط قوته ،واتضح الطريقين طريق الخير وطريق الشر .
وبمعرفته للخلل والعجز الذي دخل منه إبليس ،أقر بعجزه ولجأ إلى ربه وهكذا كل من عرف حقيقة نفسه لم يغتر
، فناجته قوته العقلية الإيجابية ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) الانشقاق .) تذكر بدايتك لقد كنت عدما في الطين جاهلا عن علوم الدنيا والدين لا تعرف ما العلم ولا ما التعليم حتى رفعك إلى أعلى معاليه ،ولم يزل يلاقيك بوجوه شتى ،
ملاقاتك بمعرفتك بربك ،وملاقاتك بتعليمك الأسماء كلها ،وملاقاتك برفعتك واسجاد ملائكته لك ،وملاقاته بهدايته لك ( اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )
فارجع إلى ربك لتجده يلاقيك بتوبته وتوفيقه ،فمنه بدايتك وإليه منتهاك : ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) الأعراف ) فاستجاب له .وهذه هي العبادة وهي اقرارهما بعجزها وضعفهما وذمهما لنفسهما لما اقترفا من معصية ربهما ،واقرارهما بعظمة ربهما وقدرته وفضله واحسانه ،بينما ابليس عظم نفسه وزكاها ، وتجاهل ربه وسبب معصيته به .
ومن هذ الموقف التعليمي الأبرز ،الذي وقع في المحل أن العبادة هي احتياج العبد لربه اظطرارا ،وليس العكس فمن ابتغى من وراء قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات ..) تسبيب الخلق للعبادة فقد جانب الصواب بدليل الآيات التي بعدها وقبلها قال تعالى : (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) .)
أي أنكم تحتاجون إلى الله اضطرارا .
بعكس الإنسان إذا امتلك وعبيدا وخداما أنتفع من ورائهم .
الله غني عن جميع عباده فلا يحتاج لمن يعبده ،وقد خلق الخلق لأنفسهم لا لحاجة فيه إليهم ولا لوحشة فيه -سبحانه - فيستأنس بهم ،
ومن ذلك قال تعالى :
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش. )
(يعبدوني ) أي يطلبون مني حاجتهم فاكرمهم فيعرفون قدرتي وعظمتي وتصرفي في الأمر في الماضي والحاضر والمستقبل ،ومشكلة كفار قريش أنهم أقروا بأن الله هو الخالق ،ولكنهم لم يعترفوا بعظمة الله وقدرته أن يعيدهم بعد موتهم ،ويجعل لهم حياة أفضل من هذه الحياة ،فقالوا المستقبل بيد الأصنام ....
معنى يعبد الله أي أنه إذا تعرف على حقيقة نفسه أقر بعجزه، وعظم ربه والتجأ إليه ..
ويتضح احتياج الإنسان أيضا تحير الإنسان بين عدد من الخيارات فعلمه محدود وقدرته محدودة
فيه الخير والشر والإيمان والكفر ،و يتجاذبه إرادتين مختلفتين (داعيان )
الداعي الأول : من طريق ربه بوسطة عقله ،
يجده قائما فيه يناديه ( يأمره بالخير والمعروف إلى أخر ذرة منه ويحثه عليه ،وينهاه عن الشر والمنكر إلى أخر ذرة منه ويحذره منه )
والداعي الآخر : من طريق شيطانه ونفسه يناديه ( يأمره بالشر والمنكر إلى أخر ذرة منه ويحثه عليه ،وينهاه عن الخير والمعروف إلى أخر ذرة منه ويحثه عليه)
ومن هنا احتاج إلى العبودية لله والتي تعني الحاجة إلى الله أن يهديه إلى طريق الخير وأن يتوب عليه إن وقع في الخطأ .
الأمر الأخر وهو اليوم الأخر :
ولأن الله قد خلق هذ الإنسان لحياة هي أعظم من هذه الحياة ،فقد ركب صورته على نحو يدرك بآلاته الحسية ظاهر الأشياء ،ويدرك بآلاته العقلية باطن الأخبار والعلوم التي لا تحصى ،فيلزمه أن يبحث طريق العودة إلي حياة الجنة التي أخرج منها ،وهذه هي حياة الآخرة الكبرى ،والتي ينبغي لكل فرد أن يقرر كيف تكون حياته وولادته بعد موته ،
فقد جاء الإنسان إلى هذه الحياة بدون إرادته ،وسيموت حتما دون إرادته ولا يستطيع أحد قط أن يمنع الموت سواء عن نفسه او عن غيره ، ولكنه له إرادة فيستطيع أن يقرر كيف يكون موته ومصيره بعد الموت .
ولما حصل الإقرار في المحل الأول من آدم أبو البشر عليه السلام تسلسل ذلك في ذريته وكان قدوة لهم ،
و كان إبراهيم عليه السلام قدوة للتدين الصحيح ..
وقد ذكر القرآن العديد من المواقف التعليمية البارزة من ذلك ما حكاه الله عن لقمان ،ومن هنا علمنا نسبته إلى نسبة الحكمة حيث ابتدأ ابنه بالوصية لشكر الله ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) ....إلى آية ( ٢٠ ) لقمان ﴾
فرتب المعرفة
{ الله منه ابتديت وإليه تنتهي (..ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
الوالدين ،
المجتمع
..
((﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) ))
يقول الدكتور مصطفى المراغي
وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء فى نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.
والمجادلة هو اقرارهم بأن الله الخالق الرازق وإنكارهم قدرته وإعادتهم للحياة الآخرة .