يبدو أن الصدمة النفسية التي أحدثها سقوط حكم الإنقاذ في السودان في أبريل من العام ٢٠١٩، لم تصب فقط الغالبية العظمى من منسوبي النظام، وإنما أصابت أيضاً خصومه، حتى ممن سعوا لإسقاطه، فردود الأفعال التي أعقبت ذلك الحدث الذي كان أشبه بالزلزال السياسي والمتمثلة في مواقف الأطراف الفاعلة في المشهد العام، وما وصلنا له اليوم من حال، لا يقود سوى إلى ذلك الاستنتاج !!
استمر حكم الإنقاذ في السودان لنحو ثلاثة عقود، مرّ خلالها بتحولات أساسية بنهاية كل عقدٍ من هذه العقود، وبالحسابات المادية فإن ما أنجزته الإنقاذ من بنيات أساسية ومشروعات خدمية ونهضة إقتصادية، يفوق ما أنجزته العقود الوطنية التي سبقته مجتمعة، وهنا ينطبق القول المأثور "الحساب ولد"، لكن هذا ليس هو موضوعنا في هذا المقال، فالذي نحن بصدده اليوم هو "الخضّة" النفسية العميقة التي أصابت مؤيدي الإنقاذ وخاصة من الإسلاميين عقب سقوط نظامهم، إذ أن أكثر هؤلاء تشاؤماً لم يكن يعتقد أن النظام سيسقط بالكيفية التي سقط بها، وإن كان كثيرون منهم يرون أنه كان يسير نحو نهاياته، ويشاهدون عجز القائمين عليه في إصلاح الخلل الذي أصابه وجعل الكثيرين من الإسلاميين يقفون موقف اللامبالاة مما يمكن أن يحدث له !!
ويبدو أيضاً أن حالة التضليل والمراوغة التي مارسها منسوبو اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ، لتفادي أي احتمال لمقاومة الإنقلاب، والتي صحبت الساعات الأولى من صباح الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩، كان لها هي الأخرى مفعول التخدير الإضافي المنسرب في أوردة الجسد الإسلامي الذي يبدو أنه كان مشلولاً.
(٢)
وإذا كان مفهوماً أن يحدث للنظام ومؤيديه ما حدث من صدمة نفسية أدت لحالة الشلل التي ما تزال بادية على مستوى القواعد، فمن غير المفهوم أن يحدث ذلك لمن عارضوا النظام وسعوا لإسقاطه بكل الوسائل ووضعوا أنفسهم في خدمة الجهات الدولية والإقليمية التي احتضنت المعارضين وقدمت لهم تسهيلات سياسية واعلامية وحتى عسكرية، من لدن التجمع الوطنى الديمقراطي وإلى يوم تحالف قوى الحرية والتغيير، ففي هذه الحالة يبدو أن هؤلاء أيضاً لم يصدقوا أن النظام الذى طالما حاربوه قد سقط بالفعل، وأن الأمور في البلاد قد آلت إليهم، فبقوا مشلولي الحركة بفعل صدمة الفرح وبفعل الوهم الذي خلقوه لأنفسهم بوجود "بعاتي" يتربص بهم، ممثلاً في المؤتمر الوطني ودولته العميقة.
عاش السودان ثلاث سنوات من الفشل المتلاحق عقب سقوط نظام الإنقاذ، كان الناس في أولها يتطلعون إلى مستقبل جديد يسوده الوئام والاستقرار والنماء، وتعلو فيه قيم التسامح والحرية والعدالة، وأضحوا في آخرها على يتحسرون على ذهاب الوضع الذي كانوا فيه، وسادت حالة من اللامبالاة وسط قطاعات كبيرة من الناس وتفشت قيم جديدة رسمت مشهداً فوضوياً تسوده الكراهية والعنف والتعدي على الحريات الفردية، وبات الشباب الذي انتشت أعداد كبيرة منه بذهاب نظام الإنقاذ يعيش حالة من التيه والضياع واليأس!!
ولعل السبب الأساسي في الحال الذي وصلنا إليه هو فشل ما يسمى بالحاضنة السياسية في أن ترتقي بفعلها السياسي لمستوى تطلعات الناس، وتولت إدارة البلاد مجموعة من الهواة والناشطين، لم يكن لديهم مشروع حكم بديل يقنعون به الناس. وها نحن اليوم نخطو في بداية السنة الرابعة للانتقال وبلادنا تسير بلا دليل، فلا رؤية واضحة ولا أجندة معلومة ولا أولويات، لمن هم على رأس السلطة، سواء كانوا متشاركين أو كما هم الآن متدابرين!!
(٣)ربما بفعل الزلزال السياسي إثر السقوط، أو بالإدراك المتأتي من تجربة الحكم الطويلة، للمخاطر التى يمكن أن تنزلق إليها البلاد، أو بكليهما، قررت قيادات المؤتمر الوطني عدم الدخول في مواجهة مع مَن تصدروا المشهد الجديد، سواء في المجموعة العسكرية أو المدنية، بل ذهبت قيادة الحزب أكثر من ذلك، عقب تشكيل حكومة الفترة الإنتقالية، بأن أعلنت ما أسمته "المعارضة المساندة"، إدراكاً منها أن الأوضاع في السودان بحاجة إلى فترة هدنة تلملم خلالها البلاد أطرافها وتعالج عدداً من القضايا ذات الأولوية القصوى حتى يكون بوسعها أن تتقدم في مشروع التحول الديمقراطي المستدام.
وعلى الرغم من هذا الموقف غير المعتاد، من طرفٍ كان الظن أنه سيفعل كل ما في وسعه لمعارضة مَن أطاحوا بحكمه، إلا أن القوى السياسية التي آلت إليها الأمور، "أفلحت" في سدّ الفراغ الناتج عن عدم وجود معارضة فخلقت لنفسها معارضين من بين صفوفها، وبعد أسابيع قليلة من توقيع الوثيقة الدستورية، رأينا ممثلين للسلطة الحاكمة يتحركون ذهاباً وجيئة بين الخرطوم وجوبا، يفاوضون شركاءهم في تحالف قوى الحرية والتغيير، بعد أن أسموهم "قوى الكفاح المسلح" !!
وبعد عامين في الحكم، وثلاثة أعوام من الإنتقال، رأينا كيف أن التحالف الحاكم انقسم إلى أربع مجموعات متناحرة، وكيف أن حالة الغلاء والوضع الإقتصادي الضاغط التي قيل أنها كانت السبب وراء "الثورة" تضاعفت وطأتها خمسين مرة أو يزيد، كما في حالة سعر الخبز ومئات المرات كما في أسعار الوقود وقيمة النقود ومعدلات التضخم، ورأينا كيف أن شعارات الحرية والسلام والعدالة ظلت حبراً على ورق؛ والأدهى من ذلك كله، هو أن التحول الديمقراطي الذي دغدغوا به مشاعر الجماهير طواه النسيان ونحن ندخل العام الرابع للانتقال!!
(٤)إذا قلنا إن بلادنا اليوم على حافة الهاوية فلن يكون وصفنا دقيقاً، فالبلاد في حقيقة الأمر في قعر الهاوية، ويبدو أنه لا أحد من الحاكمين أو حتى المعارضين يفكر جدياً في التخطيط لانتشالها، فالجميع إما مشغولين بصراعاتهم وبتصفية ثأراتهم مع شركائهم السابقين واستعادة مكاسبهم المفقودة، وإما هم في "حالة نقاهة" بعد إضطرابات ما بعد صدمة الزلزال السياسي، وبالتالي غير قادرين على المبادرة السياسية الخلاقة.
مشكلتنا ليست في الوصفة السياسية للخروج من المأزق الذي نحن فيه، فالجميع يدرك أنه لا مخرج لنا إلا في حوار شامل لكل القضايا وكل مكونات المجتمع، لكن مشكلتنا هي اختلافنا في "التركيبة الدوائية" والجهات المُصنّعة، فبينما يرى الكثيرون أن تكون التركيبة بأيدٍ سودانية خالصة حتى ولو استعانت بالخبرة الدولية، كما في حالة أميفارما مثلاً، يُصر آخرون على أن نستجلب دواءً ألمانياً أو أمريكياً من الخارج، وقد يرى البعض الاكتفاء بالأدوية البلدية !!
وفي ظل هذه الخلافات التي تبدو لا نهاية لها، فإن الطرف الوحيد الذي تقع عليه المسؤولية التاريخية هو المنظومة الأمنية التي تدير المشهد الآن، على أنه من المهم التأكيد على أن المطلوب من هذه المنظومة ليس هو الوقوف في وضع المتفرج على البلاد وهي في قعر الهاوية، ولا حتى التصدى منفردة لمحاولات إخراجها والبقاء في سدة الحكم، وإنما هو وضع القوى السياسية والمدنية،عاجلاً غير آجل، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تدير حواراً شاملاً بينها يفضي إلى إتفاق حول الكيفية التي تُدار بها الفترة الإنتقالية وجدول استكمال مؤسسات الإنتقال ووضع مصفوفة زمنية لنهاية الفترة الإنتقالية، وإما أن تثبت فشلها في ذلك وتكتفي باختيار لجنة محدودة العدد يتم تفويضها لترشيح رئيس وزراء مدني غير متحزب، وإعطائه كامل الصلاحيات لاختيار حكومته من الكفاءات غير الحزبية، على أن يلتزم رئيس الوزراء وحكومته بتقديم خطتهم لانتشال البلاد من وهدتها، واستكمال مشروع التحول الديمقراطي المستدام في أقرب الآجال ودون تسويف.
كاتب صحفي وسفير سابق *