خلفيات المشهد السياسي للحرب الروسية - الأوكرانية

mainThumb

10-03-2022 03:37 PM

السوسنة - تحليل سياسي

 إن القارئ للمشهد السياسي يرى بوضوح تمترس الولايات المتحدة خلف حلفاؤها الأوروبيون حيث تدعم باتجاه التصعيد المستمر في الأزمة الروسية - الأوكرانية عن طريق فرض المزيد من العقوبات غير المسبوقة وغير الشرعية ضد روسيا، والتحريض المستمر لخلق موقف دولي معادٍ لروسيا من قِبل الدول الأوروبية ومحاولتها الضغط على الدول التابعة وتجييشها لتتخذ موقفاً موالياً لأوكرانيا،  بما في ذلك الدعوة لدعم الحكومة الأوكرانيا المتطرفة والموالية للغرب ومدها بالعتاد والأسلحة وإعلانها الصريح والعلني عن تأييدها للمرتزقة من النازييين الجدد لتمزيق البلاد والزج بها في أتون هذه المعركة غير العادلة مع الجار الروسي. 

 
كلنا يعلم أن هذه الحرب كغيرها من الحروب بين الأقطاب الرأسمالية التي تدار بالوكالة، لكن ما يميز هذه الواقعة أنها في العمق الأوروبي، وليست في دول المحيط الرأسمالي كما كانت دائماً.
 فهذه الحرب مختلفة من حيث الشكل والمضمون، فهي حرب مباشرة بين أضداد. لذلك دعونا نتساءل هل سينجح الغرب بقيادة الولايات المتحدة على تحجيم روسيا دولياً وإحتوائها ؟ في واقع الأمر تشير كافة المؤشرات بإن روسيا ستمضي قُدماً في خططها لوضع حداً لانتهاكات الناتو المستمرة في ضم الدول المحيطة لروسيا والسعي في تهديد أمنها القومي .
 فالقادة الروس مدركين لمدى خطورة الموقف ولهذا كانت حركتهم استباقية في العمليات التي قام بها الجيش الروسي من أجل القضاء على البنية العسكرية الأوكرانية ومن أجل حماية مناطق نفوذها في الدونباس. إن نتائج هذه الحرب ستغير حتماً في حقيقة موازيين القوى العالمية، وسينتج عنها تغيرات جيوسياسية هامة على الساحة الكونية. 
 
حرب بين عالم متعدد الأقطاب
 
 أن هذه الحرب جاءت كنتاج طبيعي لطابع الصراع العالمي بين الولايات المتحدة التي شكلت قطبية أحادية في السنوات الثلاثون الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبين عالم اليوم المتغير والمتجه ليكون عالم متعدد الأقطاب.
 فروسيا الاتحادية اليوم هي دولة رأسمالية عظمى ولها تحالفاتها السياسية ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية الهامة ببعديها الأوروبي والأسيوي ولا سيما تحالفها الوثيق مع الجار الصيني .إن الأزمة الحالية التي نعيشها اليوم ليست وليدة لحظتها بل جاءت نتيجة لتراكمات من الاحداث والاستفزازات الغربية لمضايقة روسيا والحد من نموها في محاولة لاحتوائها من قبل الجار الأوروبي المدعوم من الولايات المتحدة والتي تقوم بدور" المايسترو" الذي يمسك بخيوط اللعبة السياسية ويحرك الدمى الأوروبية كيفما يشاء. 
 
ولإلقاء الضوء على خلفيات المشهد السياسي دعونا نذّكر ببعض الحقائق التاريخية الهامة فيما يخص القارة العجوزوالمرتبطة بطبيعة الصراع الحالي، وأولها فيما يخص حلف الناتو الذي تشكّل في عام 1949 بعد الحرب العالمية الثانية والذي ضم في عضويته 12 دولة من دول أوروبا الغربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة وكندا، ومن ثم انضم اليه في خمسينيات القرن الماضي اليونان وتركيا والمانية الاتحادية واسبانيا فأصبح قوامه مكون من 16 دولة في عضويته. 
وبقيت كذلك لحين انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو الذي ضم الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية مما شكّل حالة من الفوضى وخاصة فيما يتعلق بالترسانة النووية، فقد كانت الترسانة النووية السوفيتية منشرة في عدد من الجمهوريات التي شكلت الاتحاد السوفييتي ومن ضمنها أوكرانيا التي ورثت ثلث الترسانة النووية السوفياتية حيث شملت هذه التركة على 1734رأس نووي، و200صومعة نووية لتخزين وإطلاق الصواريخ النووية العابرة للقارات، واسطول من القاذفات الاستراتيجية المزودة بالأسلحة النووية، وكانت تلك الأسلحة تحت قيادة وسيطرة كومنولث الدول المستقلة، أي تحالف الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابقة. 
 
كان وجود هذه الأسلحة وتوزعها في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة قد آثار حفيظة الغرب، ولهذا فقد وقعت روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا عام 1994 مذكرة بودابست والتي نصت المادة الثانية منها على تأكيد روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة على "التزامها بالامتناع عن التهديد بالقوة أو استخدامها ضد وحدة أراضي أوكرانيا أو استقلالها السياسي وعدم استخدام أي من أسلحتها ضد أوكرانيا إلا بهدف الدفاع عن النفس أو أي طريقة أخرى وفقاً لميثاق الأمم المتحدة" ( وهو ما لم تلتزم به أوكرانيا بدعم من دول الغرب فيما بعد بما يخص الاعتداء على منطقة الدونباس) وتلت هذه المذكرة التوقيع على إتفاقية لشبونه بنفس العام والتي تضمنت سيادة أوكرانيا على حدودها واستقلالها في مقابل نزع السلاح النووي لاوكرانيا وتفكيكه وتسليمه إلى روسيا. 
 
تمدد الناتو  شرقاً رغم الاتفاقيات التي لا تجيز ذلك
 
فقد أكد قادة الديمقراطيات الغربية آبان انهيار الاتحاد السوفييتي على ضرورة نزع السلاح النووي من أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان. وكانت نصوص الاتفاقيات بإن الناتو لن يتحرك شبراً واحداً إلى الشرق، وما فعلوه لاحقاً هو إحاطة روسيا ب14 عضواً جديداً في الناتو من بحر البلطيق إلى البحر الأسود من الدول التي كانت من ضمن حلف وارسو وهي المجر والتشيك وبولندا وليتوانيا ولاتفيا واستونيا ورومانيا وبلغاريا ورومانيا والجبل الأسود ومقدونيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وكرواتيا.
 وبالنتيجة كانت العملية تهدف إلى تطويق روسيا بإضافة القواعد العسكرية ونشر الصواريخ لتحيط بها من كل جانب وبهذا كان ذلك خرقاً للاتفاقيات الموقعة بعدم تمدد حلف الناتو. 
 
ولم تكتفي بذلك بل قامت باسم الديمقراطية بالتخطيط للإطاحة في الحكم الأوكراني الموالي لروسيا عن طريق الانقلاب التي دعمته وخططت له عام 2014 ونصبت على رأس السلطة رئيساً موالي للغرب ووعدت أوكرانيا بدخول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي لاتمام مخطط الإطاحة بروسيا وتطويقها بالكامل ونصب الصواريخ باراضيها لتكون موسكو على بعد دقائق من مرمى صواريخ  حلف الناتو.  
في عهد بوروشينكو أصبحت البلاد مفتوحة على أوروبا بالكامل وبلغت الرساميل الأجنبية مداها مما أدى إلى خصخصة قطاعات الدولة وتغلغلت أحزاب اليمين في كافة قطاعات الدولة، في الجيش والقضاء والجهات الأمنية وتركز الثقل السياسي في المقاطعات الغربية ذات النزعة القومية والموالية للغرب في مقابل تهميش المقاطعات الشرقية على الحدود الروسية سياسياً وتنموياً. كما تفاقم الانقسام الحاد بين مكونات الشعب الأوكراني بعودة النزعات القومية والفاشستية واليمينية إلى العلن، وأصبحت توجهات الدولة في يد أوروبا والولايات المتحدة المهيمنة على المشهد السياسي العام في الصراع. وبالتالي فقد عادت النزعات الانفصالية في الدونباس إلى الظهور ومطالبتها في الانضمام إلى روسيا في ضمن السباق الماراثوني الأوكراني من قبل اليمين المتطرف في الإنضمام إلي حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.     
 
 موسكو تضطر للتحرك في 2014
 
كل تلك الاعتداءات والاستفزازات وعدم الالتزام بالمواثيق والاتفاقيات الدولية الموقعة اضطرت موسكو للتحرك عام 2014 وذلك للحفاظ على أمنها القومي أمام تهديدات الناتو الرامية لجر أوكرانيا إلى حلف الناتو. وبهذا اضطرت روسيا إلي الإعلان عن عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وصوت سكان القرم في الاستفتاء لصالح الانضمام إلى روسيا، واحتدم الصراع في منطقتي لوغانسك ودونيتسك بين الانفصالين الموالين لروسيا وبين حكومة اليمين الأوكرانية المدعومة من الغرب والولايات المتحدة بحربها القذرة في الوكالة، وللتهدئة وضبط النفس قام الروس بدعوة أوكرانيا والولايات المتحدة للمفاوضات، وتم التوقيع على اتفاقية منسك في فبراير من العام 2015  بشأن القرم ومنطقة الدونباس.
 وتم الاتفاق على الوقف الفوري لإطلاق النار وكانت معظم بنود الاتفاقية من مصلحة أوكرانيا. وبالنتيجة ومنذ ذلك الحين لم تلتزم أوكرانيا وبتحريض من الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون واستمرت بخرق المواثيق والاتفاقيات الدولية المبرمة بخصوص المناطق الشرقية من أوكرانيا وبالتحديد منطقة الدونباس في الحرب التي اشتد وطيسها في السنوات الثمان الماضية مما أضطر الروس للتدخل لاخمادها. 
في حين تسعى الولايات المتحدة عبر الألة الإعلامية وصخبها في التحريض ضد العمليات العسكرية لحماية الدونباس على أنها غزو غير مبرر، فتكريس مفهوم الغزو الروسي ما هو إلا لطمس حقائق الغزو الحقيقي الذي نفذه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ضد أوكرانيا خلال السنوات الماضية باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان مستخدمة نفس الشعارات الرنانة التي تستخدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها للتغطية على جرائمها وتدميرها لهوراشيما وناغازاكي ولاوس وكمبوديا وفيتام والعراق وليبيا وأفغانستان وسوريا وغواتيمالا وتشيلي وكوريا وخنقها لكوبا وايران وروسيا فهذه الجرائم في العرف الأمريكي هي تحرير للإنسان لممارسة حقه الديمقراطي في التبعية لامريكا.
 
إزدواجية في المعايير
 
هناك إزدواجية في المعايير الأخلاقية للدول الغربية التي تكذب علناً في كل شيء ليس فقط في التغطيات الإعلامية المفبركة التي تريد من خلالها شيطنة الجيش الروسي في تدمير أوكرانيا، بل في واقع سير المعارك التي يقودها النازيون الجدد ضد الشعب الأوكراني من تدمير وقصف للاحياء المدنية وتصور ذلك على أنه من فعل الجيش الروسي. 
أما الواقع فيشير إلى حرص الجيش الروسي عدم استهداف المدنيين، وإنما البنية التحتية العسكرية، ولذلك فقد قام الجيش الروسي بتوجيه الضربات الصاروخية نحو الأماكن العسكرية وتم تدميرها قبل دخول القوات البرية. 
فلو ارادت روسيا تدمير وحرق المدن الأوكرانية لاستطاعت بسهولة منذ البداية ولتمكنت من إنهاء الحرب واحتلال أوكرانيا  بغضون أيام قلائل. ولكن المسألة ليست في احتلال أوكرانيا ، فروسيا لا تعتزم إحتلال أوكرانيا، بل إجبار أوكرانيا على الإذعان والالتزام في المطالب الروسية والتي تم الاتفاق والتوقيع عليها سابقاً في عدم الانضمام للاتحاد الاروربي وحلف الناتو ووقف الحرب ضد لوغانسك ودونيتسك والاعتراف بالقرم كأرض روسية.
 ولن تتنازل روسيا عن هذه المطالب بتاتاً. ولعلم الغرب بذلك فهو يحاول الضغط عن طريق تمرير المزيد من العقوبات التي من شأنها أن تنعكس بشكل سيء على أمريكا والدول الأوروبية جراء الرد الروسي بفرض عقوبات من طرفه على الغرب وأبرزها التحكم بإمدادات الغاز الذي يضخ إلى أوروبا في الإشارة إلى أننا مقبلين على حرب طاقة. مع أن الولايات المتحدة استثنت البترول والغاز من العقوبات لمعرفتها حق المعرفة بمدى الضرر الذي سينجم على الاقتصاد الأوروبي والامريكي فيما لو لم تستثني قطاع الطاقة من العقوبات. في حين تحاول الولايات المتحدة مساعيها لزيادة إنتاج اوبيك لإغراق الأسواق في النفط ولكنها لا تلقى أذاناً صاغية من دول الاوبيك+١
 
تبعات العقوبات
 
في حقيقة الامر إن هناك الكثير من التبعات فيما لو استمرت العقوبات على روسيا والتي هي عقوبات بالمقابل على أوروبا ايضاً، وسيؤثر بشكل قوي على الاقتصاد الأوروبي، فإنسحاب الشركات الأوروبية من الاستثمار في روسيا سيتيح الفرصة للصين من التقدم وملئ الفراغ وهذا ليس في صالح الدول الأوروبية على المدى البعيد، فروسيا تمثل سوقاً كبيراً أمام المنتجات الأوروبية لا مثيل لها.  إن الهدف من العقوبات هو شل البنك المركزي الروسي وضرب العملة المحلية وعزل روسيا تجارياً عن بقية العالم وشلها اقتصادياً. 
واعتقد بإن القيادة الروسية مدركة تماماً نوايا الغرب ولذلك فقد عملت روسيا في السنوات الأخيرة على توجيه اقتصادها نحو الشرق والجنوب لخلق فضاء آخر لها في إيجاد الفرص البديلة. فقد وقع الروس مشروعاً لإنشاء خط جديد للغاز ليكون بديلاً للخط نورد ستريم 2الذي تم الانتهاء منه في ديسمبر الماضي بين روسيا وألمانيا.ولم يتم تشغيله بعد. الخط الجديد سوف يتم تشييده بين روسيا والصين مروراً بمنغوليا وبطول 960 كيلوا متراً. هناك الكثير من العقبات التي تواجه الولايات المتحدة في فرض عقوباتها على روسيا في مجالات عدة. فتشير التقارير الامريكية بإن هناك بعض السلع الأساسية المستوردة من روسيا و التي أضطرت كبرى الشركات الامريكية في الضغط على بايدن استثنائها من العقوبات  مثل اليورانيوم والذي يستخدم في محطات الطاقة لتوليد ما لا يقل عن 20% من الكهرباء داخل الولايات المتحدة. 
 
وخلاصة القول هذه الحرب ضد روسيا ليست حرباً سهلة فقد استطاعت روسيا في تاريخها الحديث من القضاء على إمبراطوريتين عظيمتين في تاريخ أوروبا، فجيش نابليون هزم شر هزيمة في روسيا وتم القضاء عليه ، كما استطاع الاتحاد السوفييتي من تخليص البشرية من هتلر بالقضاء على النازية في الحرب العالمية الثانية. وروسيا اليوم دولة لا تقل أهميتها عن كلتا الدولتين السابقتين لها والتي ورثت عنهما إرثهما الحضاري والتاريخي.                     


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد