في أفق السودان السياسي تجري جهود حثيثة لتمديد أجل الفترة الانتقالية أربعة أعوام أخرى، وهي جهود معلنة تتبناها القوى السياسية التي حكمت السودان حولين كاملين ولم تتم رضاعتها من ثدي السلطة. وقد لا يكون هذا مستغرباً، فتلك القوى كانت تطالب منذ البداية بأن يكون عمر الفترة الانتقالية بين عشرة وخمسة عشر عاماً، لكن المستغرب هو أن تتواطأ البعثة الأممية التي قيل أنها أتت لمساعدة السودانيين في الانتقال نحو حكم مدني ديمقراطي يختار فيه الشعب ممثليه ومَن يحكمه عن طريق صناديق الاقتراع !!
لا يكفي أن نحكم على أداء البعثة الأممية ورئيسها من خلال أقوالهم فقط، وإنما يتوجب مقارنة الأقوال بالأفعال أيضاً؛ وفي أفعال البعثة الأممية، كما في أقوالها، ما يبعث على الشك والقلق من أنها تتصرف في تفويضها الذي منحه لها مجلس الأمن بقراره 2524 على النحو الذي يروق "لحاضنتها الدبلوماسية" ممثلة في القوى الغربية التي كانت صاحبة النصيب الأكبر في شراكة إسقاط النظام السابق؛ وتريد أن تُبقي على هذا النصيب في تشكيل مستقبل السودان والدليل على ذلك أن قائمة من اختارتهم البعثة للتشاور بشأن مبادرتها الأخيرة هم بالأساس أصفياء وأحباء تلك الحاضنة الدبلوماسية، وهم من كانوا على رأس السلطة لأكثر من عامين ولم ينجزوا خلالهما خطوة ذات بال في مسار الحكم المدني والانتقال الديمقراطي.
خلال أكثر من عامين، كانت هي عمر الشراكة "المنسجمة" بين قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والمكون العسكري، تعرضت الوثيقة الدستورية لخروقات جسيمة، وتم تعطيل بنودها الأهم المتعلقة بإكمال مؤسسات الانتقال وعلى رأسها تعيين أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي وإقامة مؤسسات العدالة ممثلة في مجلس القضاء الأعلى ومجلس النيابة وتمكينهما من انتخاب رئس القضاء والنائب العام ثم اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، وكذلك إقامة المفوضيات المنوط بها تهيئة الساحة الوطنية لإجراء انتخابات يختار فيها الشعب مَن يحكمه، مثل مفوضية الانتخابات نفسها ومفوضية الدستور ومفوضية العدالة وغيرها.
وخلال العامين المشار إليهما (سبتمبر 2019 - سبتمبر 2021) جرت انتهاكات واسعة لحقوق الانسان والحريات العامة في كل أنحاء السودان شملت قتل المئات من المواطنين وتشريد الآلاف بعد حرق قراهم، كما شملت إغلاق مؤسسات صحفية وتشريد مئات الصحفيين من مؤسسات الدولة الرسمية، وفصل الآلاف من موظفي الدولة من مواقع عملهم في مختلف القطاعات الخدمية، وتمت مصادرة الأملاك الخاصة في مختلف الولايات دون أحكام قضائية، وتم قمع التظاهرات السلمية وجرى اعتقال المئات من المعارضين والزج بهم في السجون دون توجيه تهم إليهم أو تلفيق تهم في مواجهتهم دون تمكينهم من حقهم في التقاضي أمام القضاء الطبيعي.
وعلى الرغم من وجود بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان "يونيتامس" طوال نصف هذه المدة، وشهودها على تلك الوقائع إلا أنه لم يسمع لها صوت ينبه أو يطالب أو يحذرمن خطورة تلك الانتهاكات على مسار الانتقال والتحول الديمقراطي، وكأن الذين تطالهم تلك الانتهاكات ليسوا بسودانيين، وقد كان أمام الممثل الخاص للأمين العام أن يتطرق إلى ذلك سواء في لقاءاته مع أطراف السلطة التي كانت تحكم - بشقيها - أو في اجتماعاته مع الفاعلين السياسيين كما يسميهم، أو في إفاداته الصحفية أو في تقاريره الدورية أمام مجلس الأمن الدولي (راجع مقالنا بعنوان : ماذا يفعل السيد بيرتس في الخرطوم، المنشور بتاريخ 19 أكتوبر 2021).
لقد أثبتت البعثة الأممية، فعلاً وقولاً، أن لديها "خيار وفقوس" بين السودانيين، وأنها منحازة لمجموعات سياسية بعينها منهم دون مجموعات أخرى، بدليل أن صوتها بدأ يعلو فقط حينما حدث اختلال في معادلة الشراكة التي كانت قائمة، وفقد المحسوبون على البعثة مواقعهم في السلطة، وجرى توقيف بعض القيادات السياسية، فسارعت للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعادة الشراكة إلى مسارها؛ ولم يقتصر الأمر على البعثة الأممية بل سبقها إلى ذلك ما يسمى بالمجتمع الدولي (الحاضنة الدبلوماسية)، إذ تبارت السفارات ووزارات الخارجية في دول غربية ولجان الكونغرس الأمريكي والاتحاد الأوروبي والنشطاء في التنديد بما حدث لمن يعتبرونهم "دعاة الديمقراطية" مطالبين بإبعاد تأثير العسكريين على قيادة الفترة الإنتقالية وإعادة الوضع لما كان عليه!!
إن النتيجة الفعلية لأداء البعثة الأممية بعد عام كامل من مباشرتها مهامها هي الانحياز غير الإيجابي لأحد أطراف الصراع حول السلطة، وهو الطرف المدني الذي يريد أن يحكم لعشرة أعوام دون تفويض شعبي، ويبدو أن البعثة وشريكها المدني مدعومين بالحاضنة الدبلوماسية بدأوا في لعبة تبادل الأدوارمن خلال ما أسمته البعثة "إطلاق المشاورات السياسية" لتجاوز حالة انسداد الأفق السياسي، إذ اقترحت القوى السياسية التي كانت حاكمة استدعاء المجتمع الدولي، بغضه وغضيضه، ليقوم هو بإدارة حوار بين السودانيين، على أن تقوم الأمم المتحدة وعبر بعثتها المتكاملة بدور السكرتارية، وكأن ما نحن فيه من تدخل دولي سافر واستلاب للسيادة الوطنية ومحاولات مستميتة للعبث بالهوية الوطنية وموروثات الشعب القيمية ليس كافياً.. إذا لم تستح فاصنع ما شئت !!
لا يحق لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة في السودان أن تحصر مشاوراتها بشأن قضايا الانتقال في مجموعات سياسية بعينها من السودانيين، خاصة وأن هذه المجموعات هي من أوصلت البلاد إلى هذا الدرك السحيق من التردي السياسي والمعاشي والأمني، وجعلت خطاب الكراهية والبغضاء هو السائد في ساحة كان المفترض أن تسودها لغة الحوار والتفاهم. وإلا فسيكون من المنطقي أن تتسع دائرة الشك في نوايا البعثة الأممية وحاضنتها السياسية بأنهم يخططون لتمزيق السودان وتقسيمه من خلال تعميق الخلافات بين أبنائه، وسيكون مطلوباً – في هذه الحالة – أن يتداعى السودانيون ذوو النخوة للتصدي لهكذا مخطط وللقائمين عليه، فمستقبل السودان – الموضوع على طاولة البحث الآن – هو ما ينبغي أن يقرره أبناؤه جميعاً، وليس القوى الخارجية، وعلى الأمم المتحدة وبعثتها إن فشلوا في ذلك أن يرحلوا غير مأسوف عليهم.