تعد قضية الترقيات الأكاديمية من القضايا الرئيسة التي تهتم بها الجامعات، وخصوصا ان عمادها هو البحث العلمي، فالإنتاج العلمي للجامعات يشكل عنوان قوتها، و يرسم معالم هويتها، ويحدد دورها في المساهمة في التطور الحضاري للمجتمع الإنساني، وهو اليوم واحدا من أهم المعايير المستخدمة في تصنيف الجامعات أو تحديد مكانتها بين الجامعات العالمية.
وبالنسبة للأستاذ الجامعي، الترقية الأكاديمية مسألة مصيرية تحدد مستقبله وسمعته ومكانته وشرفه الأكاديمي ، إضافة إلى المزايا المادية والاستقرار الوظيفي وخصوصا في ظل قوانين الجامعات التي تمنح الأستاذ الجامعي مدة تصل في أقصاها إلى عشر سنوات للترقية إلى رتبة أعلى وإلا فانه حكما يصبح فاقدا لوظيفته. واعلم عن بعض أساتذة الجامعات الذين فقدوا وظائفهم بسبب عدم ترقيتهم ليس لتقصير منهم في الإنتاج العلمي، ولكنهم كانوا ضحية إدارات جامعية مستبدة، استغلت صلاحياتها أبشع استغلال، ولا يتسع المجال للتفصيل في هذا الموضوع، ولكني آملأن يكون هذا المقال فاتحة لإنصافهم ورفع الظلم عنهم وفق الإجراءات القانونيةالسليمة.
في الماضي لم تكن مسألة الترقيات في الجامعات تثير أي إشكاليات، حيث كان يتم التعامل معها بدرجة عالية من الموضوعية والسرية والمهنية أو حسب الأصول، وكانت تقارير المحكمين للإنتاج العلمي المقدم هي المقياس الرئيسي في الحكم أو النتيجة بالترقية أو ردها، وكانت العملية تسير وفق تعليمات وإجراءات واضحة ومنضبطة، وكان الجميع راضين ومسرورين للنتائج المنصفة، ونادرا ما كانت تسجل قضايا في المحاكم الأردنية تتعلق بهذه المسألة.
وللأسف فإن الحالة اليوم لم تعد كما كان بالأمس وتسببت السلوكيات غير المبررة وغير المقبولة من قبل بعض الإدارات الجامعية في التعامل مع مسألة الترقيات إلى خلق أجواء من التوتر والقلق داخل الأوساط الأكاديمية وأصبح لجوء أساتذة الجامعات إلى القضاء سلوكا متكررا نتيجة التجاوزات التي تحدث في التعامل مع هذه المسألة في بعض الجامعات، ومن ابرز ملامح التطرف في التعامل مع هذا الموضوع أن بعض الإدارات الجامعية تتشدد في الموضوع و تستغرق الإجراءات أحيانا مدة تطول وتصل إلى سنين، ويشكو أعضاء هيئة التدريس من سياسة المعايير المزدوجة التي تتعامل بها بعض الإدارات الجامعية سواء من حيث النتيجة أو المدة الزمنية أو الإنتاج العلمي ،لدرجه انه قد يقبل الإنتاج العلمي المنشور في مجله معينه لعضو هيئة تدريس مرضي عنه من قبل الإدارة، ويرفض الإنتاج العلمي المنشور في نفس المجلة لزميله المغضوب عليه. وقد بلغ الظلم في هذا السياق حدا أن طالب الكثير من أساتذة الجامعات برفع يد الجامعات عن موضوع الترقيات وان تتولى وزارة التعليم العالي الموضوع من اجل تحقيق العدالة والنزاهة ، ومنع العبث بالترقيات الأكاديمية.
وعلى النقيض من ذلك هناك تطرف من نوع آخر في التعامل مع الموضوع ويستند إلى فهم خاطئ للترقية يتمثل بالتساهل في الموضوع بحيث انه يتم ترقية 99% من أعضاء هيئة التدريس الذين يتقدمون للترقية وخلال مدة زمنية قصيرة جدا بحيث تستغرق العملية من القسم الى الكلية الى مجلس العمداء ومن ثم المحكمين واتخاذ قرار الترقية اقل من شهرين أحيانا، والحال هذه يترقى الصالح والطالح، لا فرق بين صاحب الانتاج العلمي الرصين والانتاج العلمي المبتذل ، مما يكرؤس عقلية ثقافية متخلفة لا تنمتج سوى الجهل والتخلف والانحطاط ، وما يترتب على ذلك من انحدار نوعي مخيف للإنتاج العلمي، ولو دققنا في بعض الإنتاج العلم المقدم للترقية في بعض جامعاتنا فإننا نجد في طياته ما يثير الدهشة والعجب العجاب، فعلى سبيل المثال نجد عضو هيئة تدريس متخصص في اللغة الانجليزية ومتخرج من إحدى الجامعات الأمريكية يقدم للترقية إنتاج علمي باللغة العربية أو إنتاج علمي باللغة الانجليزية منشور في مجلات وهميه ويتم ترقيته، أو أستاذ لغة عربية لا يعرف أبجديات اللغة الفرنسية يقدم إنتاج علمي باللغة الفرنسية، ولا نريد الدخول في تفاصيل محتويات هذا الإنتاج وقيمته العلمية أو القضايا التي يطرحها والإشكاليات التي يعالجها ولكن نجد معظمها دراسات جوفاء وتخلو من الجدة والاصالة، فلا تنير الدرب ولا تحل مشاكل المجتمع ، وهذا ان دل على شئ فانما يدل على تورم خبيث في العقل الاكاديمي.
إن التطرف في معالجة مسألة الترقيات بات يستلزم تدخل وزارة التعليم العالي لأن التشدد والتساهل في الموضوع هما وجهان لعملة واحدة، وللأسف فانه لا تخلو الكثير من جامعاتنا من مظاهر هذا التطرف سواء في التشدد أو تقيضه التساهل ، ونؤكد أن هذا التطرف يشكل لحظة صادمة في تاريخ العلم والمعرفة ووصمة عار في جبين الجامعات ، والأخطر من هذا كله أن هذا التطرف سيؤدي في النهاية إلى نتائج كارثية ، منها توقف من وصل إلى رتبة الأستاذية عن البحث العلمي لأنه نفض غبار العلم و وصل إلى خاتمة المطاف، ويقول وبثقة كبيرة انه الان استاذ دكتور لا يشق له غبار، وان الاوان ان يقطف الثمار في ان يعين بموقع اداري كبير ليقود الجامعة ، وما يترتب على ذلك من خسائر ماديه ومعنوية للجامعة، فالجامعات اليوم بات الهرم فيها مقلوبا حيث نسبة من هم برتبة استاذ دكتور الاعلى بين صفوف اعضاء هيئة التدريس ، واذا لم يتم معالجة هذا الخلل ووضع نهاية لمثل هذه الممارسات ، عندها علينا ان نقول على الجامعات السلام ، ولا بد هنا من استثناء نخبة متميزة من الأساتذة الجامعيين الذين يبدأ مشوارهم الحقيقي في البحث العلمي بعد الترقية إلى رتبة الأستاذية الذين يشكلون منارات للحقيقة ومنابر للمعرفة ، ونقاط مضيئة في أكاديميات مظلمة بالخوف والكذب والنفاق.
إننا ندرك ونتفهم موقف ورؤية وزير التعليم العالي الدكتور وجيه عويس فيما يتعلق باستقلاليه الجامعات ،ولكن هذه الاستقلالية لا تمنع الوزير وصاحب الخبرة الطويلة واالتجربة المتميزة في رئاسة الجامعة العلوم والتكنولوجيا والذي في حدود معلوماتي في عهد رئاسته لجامعة العلوم والتكنولوجيا لمدة ثمان سنوات لم تسجل في عهده أي قضية في المحكمة تتعلق بالترقية ، وبناء عليه لا بد من التدخل لضبط الأمور ووضع حد لهذا التطرف الذي تجاوز حدود الاعتدال والمنطق والقيم والأعراف الأكاديمية والغايات المرجوة من البحث العلمي، وذلك من خلال وضع تصور أو خريطة طريق أو مبادئ عامة ملزمة تضمنها الجامعات في تعليمات الترقية بحيث تشمل آلية واضحة تمنع التطرف وتحقق العدالة والنزاهة والشفافية وتضبط جودة ومستوى الإنتاج العلمي، وتضع حد لممارسات متخلفة تنتج الجهل وتجافي الصواب وتدمر المنطق .
فالعدالة وتطبيق الأنظمة والتعليمات بنزاهة وشفافية وحيادية هي الحل الوحيد للخروج من الهاوية التي تردت فيها بعض الإدارات الجامعية، والإطار العام الذي يمكن أن تضعه الوزارات هو الخيار المنطقي أمام الإدارات الجامعية التي لا تجرؤ على إعادة النظر في تعليمات الترقية ،خشية ردود فعل أعضاء هيئة التدريس. وتبقى والوسطية والاعتدال كنهج في الإدارة معايير اساسيه لتحقيق التوازن والاستقرار ومواكبه التطور ومواجهه التطرف والتشدد والغلو والانغلاق، وتعزيز الولاء والانتماء للوطن والمجتمع.
*الكاتب أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك وخبير دولي في دراسات الديمقراطية وحقوق الإنسان.