" من اقبح أنواع الاستبداد ، استبداد الجهل على العلم ، واستبداد النفس على العقل " عبد الرحمن الكواكبي
إنَّ أزمة التعليم في الأردن هي جزء من أزمة عامة تتخبط فيها مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي نتاج طبيعي للسياسات التي اتبعت خلال السنوات الماضية، وهي سياسات غريبة وفاشلة ، وبعضها كان تنفيذ لأجندات خفية بعيدة كل البعد عن الأولويات الوطنية والاجتماعية ، أدت إلى ما أدت إليه من تعميق الفوارق الطبقية والاجتماعية، وتعزيز الفجوة ما بين المواطن والدولة، وتهميش القطاعات الاجتماعية ، وتهشيم وابعاد القوى الوطنية.
وكان من ثمار هذه السياسات أن وصلت أوضاع البلاد عامة والتعليم على وجه الخصوص إلى وضعية كارثية، يجب أن يعترف بها الجميع، لقد تفاقمت مشاكل التعليم في البلاد في وقت تحتد فيه أزمة النّظام السياسي، حيث التردي والانحطاط على كافة الصعد ، فتراجع تصنيف الأردن وفق مؤشرات الديموقراطية وحقوق الإنسان، وارتفعت بشكل غير مسبوق أرقام العجز والمديونية والفقر والجوع والبطالة والجريمة والمخدرات ، وانتشر الفساد في كافة مفاصل الدولة ، وتراجع دور ومكانة الأردن على الساحة الإقليمية والدولية ، اما على صعيد التعليم العالي فقد تراجع تصنيف غالبية الجامعات الأردنية وفق معايير التصنيف العالمي ، وتعاني معظم الجامعات الحكومية من شح الدعم الحكومي وارتفاع في حجم العجز والمديونية، وغياب شبه كامل لمعايير الجدارة والكفاءة والعدالة، ويتم إدارتها من خارجها، ويمارس في بعضها ممارسات لا تمت للأعراف والمعايير والتقاليد الاكاديمية باي صلة ، ووصل فيها الانحدار العلمي لدرجة انها باتت عاجزة عن المساهمة في التطور المجتمعي ، ولم تعد غالبيتها تقدم شيء يذكر في مجال الابداع او الابتكار وغيرها من الإشكاليات.
والحقيقة أنّه لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم دون إلقاء الضوء على واقع الجامعات إذ لا يستقيم الحديث عن التعليم العالي على وجه الخصوص دون ربطه بواقع الجامعات، وما شهدته خلال السنوات القليلة الماضية مما يمكن تسميته إصلاحات فوقية فاشلة أو رجعية عبر تغييرات سريعة لقيادات وأنظمة وقوانين الجامعات الرسمية. وأضحت معها مقولة استقلالية الجامعات الحكومية أوهام واضغاث أحلام.
وعليه فإنّ أيّ تصور وطني لإصلاح التعليم في البلاد يجب أن يركز على فهم حقيقي لاستقلالية الجامعات، فالجامعات بقياداتها الأكاديمية وقواعدها وأنظمتها القانونية وتقاليدها وأعرافها يجب المحافظة على استقلالها واستقرارها ورفض التدخل في شؤونها من أي جهة كانت وتحت أي مسمى أو عنوان، باستثناء مجالس الحاكمية المتعارف عليها ، إذ لا يمكن ضمان نهوض الجامعات بوجود أي نوع من التدخلات، فالجامعات القوية والمستقلة هي التي تصنع النهضة والتغيير المنشود ، وهذه الجامعات لن ترى النور الا بوجود رؤساء جامعات قادة اداريين ومبدعين وأصحاب قرارات جريئة دون خوف او تردد او تراجع استجابة للضغوط او الاملاءات ، وقد رأينا كيف كانت تتم عملية تقييم رؤساء الجامعات أو آلية اختيارهم والتي شابتها الكثير من الاختلالات ، وللأسف كانت في مجملها مخيبة للآمال وبلا ضوابط وأقرب إلى تصفية الحسابات أو تقديم الجوائز والترضيات ، وتكريس للواسطة والمحسوبية والشللية ، وهذه حقيقة لا أحد يستطيع أن ينكرها فكافة محاولات تقييم واختيار رؤساء الجامعات كان مآلها الإخفاق.
ولعله من المستغرب أنّ الدولة تتدخل بشؤون الجامعات بشكل فظ، سواء عبر تعيين أو اختيار القيادات أو سياسات القبول او حتى الترقيات الاكاديمية وغيرها، وبنفس الوقت فإنَّ الدولة عبر الحكومات المتعاقبة رفعت يدها وتخلت بطرق ملتوية عن الوفاء بواجباتها تجاه الجامعات، رغم ان الحكومة تقوم بجباية رسوم الجامعات السنوية والتي تقدر بمئات الملايين ولا تحول منها للجامعات إلا النزر القليل، وذلك تطبيقا لنهج يقوم على الجباية لا التحفيز والتشجيع والاستثمار بالتعليم ، وصولا لمنع الجامعات حقها رفع الرسوم لمواجهة الأعباء المالية المتصاعدة عليها .
المطلوب اليوم إصلاح حقيقي للتعليم في البلاد، إصلاح تشارك فيه القوى الحية وكل من له مصلحة في النهوض بالتعليم، إصلاح يتم فيه إقرار سياسة وطنية للقبولات الجامعية وتشجيع البحث العلمي الرصين لا الرخيص والمبتذل، وذلك من اجل تحقيق الابداع والابتكار ، ومنع العبث بالترقيات الاكاديمية تحت أي ظرف كان ، ومراجعة شاملة للقوانين والأنظمة المتعلقة بالتعليم في مختلف مراحله، و حماية الحريات الاكاديمية والحفاض على هيبة ومكانة الأستاذ الجامعي بحيث لا يتحول الى زبون دائم لدى المحامين والمحاكم لنيل حقوقه او رفع الظلم عنه، فأساتذة الجامعات هم عقل الدولة وخزانها الفكري ولا يمكن استمرار تهميشهم وعزلهم، كما ان على أساتذة الجامعات تحمل مسئولياتهم الاجتماعية بأمانة ورجولة ، وعليهم ان يسعوا لتأكيد حضورهم في المشهد العام بحيث يكون لهم راي وموقف تجاه المجتمع وقضاياه وهمومه وتطلعاته ، بعيدا عن الخوف والنفاق والتزلف، وأقول بمصداقية ناجمة عن الخبرة الشخصية ان أساتذة الجامعات يتحملون نصيب الأسد من المسئولية لما اصابهم وما يجنون اليوم من تهميش وحرمان ، كما يجب رفع القبضة الأمنية عن الجامعات ، ورفع التحفظ على إنشاء نقابة لأساتذة الجامعات، وعند الحديث عن تصور وطني لإصلاح التعليم في البلاد يجب أن لا يغيب عن أذهاننا ديموقراطية التعليم وضرورة الحفاظ على ممارسات ديموقراطية داخل الجامعات تقودها قيادات ديمقراطية شفافة ، ورفض الهيمنة والإقصاء والتسلط والاستبداد بالرأي والقرار، وكذلك ترسيخ قيم الحوار والتسامح والمواطنة ورفض العنف والتطرف.
وهذا يستلزم اجراء حوار وطني جاد يفضي الى إصلاح ينخرط بموجبه الجميع لبلورة مشروع إصلاحي يواكب التغييرات و ينقذ التعليم من الانهيار المحقق، ويسهم في بناء مجتمع المواطنة، وإقامة الدولة الحديثة ، وهناك نماذج من البلدان المجاورة التي نهضت بسبب التعليم الجامعي ، ولابد ان تدرك كل مؤسسات الدولة ضرورة اصلاح هذا الملف الهام ، ملف التعليم العالي باعتباره متطلب الزامي لتحقيق النهضة المنشودة ، وهذا ما يجب أن نسعى له جميعاً دون أيّ تردد او تأخير.
وبالمجمل فإنّ أيّ تصور وطني ديموقراطي للتعليم يؤمن تعليم موحد ومتطور لجميع المواطنين ويصب في مهمة استكمال بناء الدولة ، لن يتحقق إلاّ في ظل اعتبار التعليم أولى الأولويات، وما يترتب على ذلك من إصلاح فعلي وشامل لمؤسساتنا التعليمية من حضانة الأطفال حتى الجامعة، إصلاح تعليمي يكون في خدمة التنمية الوطنية المستدامة، وبناء الاقتصاد الوطني، والمواطن الأردني الحر القادر على المنافسة في عالم لا مكان فيه للضعفاء، وذلك من أجل غد أفضل، وهذه مسؤولية ومهمة كافة الأطراف من صناع القرار وأساتذة الجامعات والمثقفين وكل القوى الحية المؤمنة بإمكانية الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، وهذا ما يجب أنْ نسعى له جميعاً دون أي تأخير، اذ ليس امامنا الكثير من الوقت كما ان كلفة تأخير الإصلاح أكثر بكثير من التعجيل بإحداثه، وهذا ما نأمل أن يقدم عليه دون تردد وزير التعليم العالي الدكتور وجيه عويس الذي نعتقد أن عودته للوزارة هذه المرة هي رغبة الملك أكثر منها رغبة رئيس الوزراء، وذلك لترجمة الاستراتيجية الوطنية إلى حقيقة وواقع ملموس، فهل يكون عويس هو رائد اصلاح التعليم في الأردن؟ ومن اين سيبدأ وما هي الاليات ، وما هي رؤيته فالجامعات تحتاج الى إصلاحات جذرية ؟ هل حان الوقت للإعداد لمؤتمر وطني لوضع تصور وطني شامل يستهدف معالجة الاختلالات وإصلاح التعليم وإعادة ترتيب الأولويات في هذه المرحلة الهامة من تاريخ الدولة الأردنية من اجل استعادة الدور والمكانة للتعليم و العلم والعلماء ، واعداد الانسان الأردني الحر القادر على مواجهة التحديات والاسهام بكفاءة في احداث النهضة المنشودة ؟ ام ان اصلاح حال التعليم في البلاد بحاجة لمعجزة في زمن انتهت فيه المعجزات ؟!