زقزقة عصافير السروات الباسقة، وصلت أذنيه على موعدها الخريفي، الذي تلاحق معه، أشعة الشمس، فتح عينيه بهدوء الطائر، الذي ينام على يديه، يعيش لحظات المشاغب،يرنو إلى ملاك يتزنر بالحلم والحكايات.
تتمايل عصافير، تقشش اعشاشها، تدور كأنها في بحث عن اتجاه القبلة.
في مواجهة العصافير، اسمع طبقات الغزل، تتباهى بالتدريج من أعلى السروة، تتمسح بأغصان غزلية مرت عليها قامات الثوار، نقشت صبايا البيارات تلك الأحرف التي نسجت حولها صمخ مثير شهي عبق.
يطير الدوري، اغلب عصافير السروات من الدوري البلدي، وبعض الكناري المهاجر، والزرزور الذي يختفي بين شلل السرو وثماره، يحط الطير حول بواكير الحنطة، تتقافز بين أجساد العمال، ترانا، نتعانق في سر ذلك الجذع، فتبكي رفيفها يعانق دم الشهداء.
نتبادل الهمس، نطلق عيوننا نحو أجنحة الحب، نتناسل بين أكوام أغصان العنب، قلتها مقصات جدي، عندما كتب وصيته الأخيرة، قال ان لا تتوقف عن زرع الحنطة والشعير، فهي قوت الطير.
اتذكر، ان غيمة من أجنحة الدوري، تتشابك في بهجة نادرة، تقاطع مع موكب حرير الروح، في تناثر الذهب من مفرق الصدر، تلمع شذرات الفضة وتصدر صهللة، فقد تساقطت، لتلتمع مع خيط شمس بكر، وسط شتلات الغيم الغادر.
لمت مرايا كثيرة، معلقة بأردان ثوبك، أطر وبراويز صور، تلمع فضتها بالاسود والأبيض.
ثم ماذا؟.
هل أقرأ وصية جدي، الذي انهار على طريق المقبرة، حاملا رزق البيت، حيث تستقبله سيتي سارة، تمسح عرق جبينه ونتبادل معها حمل ونقل المونة، فيبتسم ولا يتكلم. تنتابني لحظة بكاء، إذ ماتت ستّي سارة وهي تعجن طيناً لترميم فجوات الردم والخراب الظاهر على هيئة نقوش مناقير الطير. ٓ
.. وحدث ان غبنا داخل أكمة السروات؛ درنا نتّبع أثر الجني الكهل، كنت حدثتك عنه في ظلال الأزرق، وقتها جاد رحيق نبضك، إنساب عطر عرقك السكري، همس كلامك مس روحي:
-..كنت على وعد من شئ..[هو ذات كلامي، حروفي]، ثم
انتهى الوقت
تنازعني..النبض،
فالصمت،، عاد ظلك، ظلي، ظلنا معا، دون الشيء!
صرخت ام الشهيد، مرخت كوفيته في ظل ثوبك، اغمى عليك وانت تلملمين مزق ثوبها الذي شقته من فورة الحزن ووجع الفقد.
صعقة نالت منك، تفعفلتي بالتراب، نالت رائحة الدم ودبق السرو، وبقايا فتات خبز الصيادين، من أوراق، خبيئة صدرك العرم، وكأنك في درس، تتناولين الورقة الاولى:
(وصية جدي)
قوموا على حراثة الأرض
ادعموا سيل المطر نحو البئر الأولى، ازرعوا حنطة الطيور.
اغسلوا وجه سيدة البيت فقد مات من كان يعطرها.
.. أما ما جاء في [الورقة الثانية]، فقد شهدتها حرير الروح، وقالت لي انها تناولت أطراف الورقة و حبرها ندى، مبلول:
(شكل الحنون)
.. في مساء العسل، أواخر هجرة النحل نحو الخلايا، كنت مثل دحنون أحمر، شق الصخور وهاج، وانا اشاغب، أغنى مثل باعة الخردوات: «....يا بتاع العسل،
حبيبي يا عسل،
كحل حبيبي عسل،
يكحل عيون حبيبي.
مدد. مدد.»
.. ولما فاض صوتك قرأت ما ضمت الورقة:
.. ويقال ان ليل الشتاء مدهش.
هناك من قطع صوتك معلنا:
-الصيادية على النار...
فقلت اندب حظي:
- يا ترى، قمرنا سهران؟
.. وكان من أسرار الحنون، ان بنات البيادر تسرق غلال الطيور وتضعها مع حجاب العطار، تلصقها فوق يمامات يهدل مرمرهن.. يا لهوووي.. يا قلبي.
.. وصرخت، اريد تمزيق الورقة:
-مين سيأكل حصتي، هم هم.
اخفيت الورق، بريق عينيك شاهد عصافير السروات، تتبادل الهزار
-مساء العسل.
توقف، انظر في رسوم المخطوط، حروف تتنازع سطوة جدي، صاحب المخطوط، والدار والدوار.
huss2d@yahoo.com