الأسرة في ظلال العولمة

mainThumb

11-10-2021 12:31 PM

كما يقول بيكنسفيلد في مثل شهير له  "قل ما شئت عن الشهرة، وعن اقتحام الأخطار، فإن كل أمجاد العالم وكل حوادثه الخارقة للعادة لا تعادل ساعة واحدة من السعادة العائلية".
 
ثمة ارتباط بليغ بين الأسرة المكتملة المعالم، والبناء المشيد المتين، وحيثما نريد الاقتراب من حقائق الأشياء، فلابد من إسقاط كل المفاهيم على واقع مكبل بقيود أساسها الحقيقي واقع الأسرة..
ربما أغلب الحقائق التي تعترضنا سببها بسيط جدا، لكن عمق المجتمع واتساع العالم، اقتراب البعيد البعيد ، جعل من كينونة هذه الأسرة وبنيتها محط أنظار، تطل من شرفة متباينة المدى، جل همها التحليق بعيدًا، حيث فضاءات تزدرينا، تحط من جودة هذا البناء المتين، المشيد بإتقان سماوي الصنع.
 
هكذا تتسرب العولمة إلى تكويننا البشري؛ فتنقله من بعد لآخر، حيثما يتسع العالم شيئا فشيئا ، وتتلاشى بعض المفاهيم من حولنا، لكن ثمة ما يبقي على أصالتنا، عقائدنا، عاداتنا، المنظومة الأخلاقية لدينا، وبعض الأسس والمقومات التي تبني الأفراد بناء متكاملاً، لا يبدده خلل أو نقص، أو تشويه... ألا وهو الأسرة المتينة البنيان.
ورد مصطلح الأسرة كثيرا كوحدة اجتماعية مهمة في البناء الحضاري ورقي المجتمعات واستمراريتها، فقد تم تعريفها وفقا للمعايير الدولية والتشريعات الوطنية كما ورد في المادة (23) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنها :الوحدة الاجتماعية والطبيعية الأساسية في المجتمع.
 
ساهمت الأسرة بطريق مباشر في بناء الحضارة الانسانية وإقامة العلاقة التعاونية بين الناس،وكما الحال في كل المجتمعات يصطدم مفهوم الأسرة بجدار عميق المسام، يجدر تحليله وتقويمه بإيجابياته وسلبياته، ثم اتخاذ الأحكام المناسبة جراء هذا الاصطدام  والتحويل السريع  المفاجئ فيما يتعلق بتطوير "الأسرة" و "بنيتها التحتية" أو حتى "هدم قيمها العميقة"؛ ألا وهو مفهوم "العولمة".
يرتبط مفهوم العولمة لغوياً بمعنى جعل الشيء عالميا، وهي ترجمة لكلمة "Mondialization"  باللغة الفرنسية، أو globalization  بالإنجليزية، وهو مصطلح يعني جعل العالم عالما واحدا موجها توجيها واحدا في إطار حضارة واحدة.
ويعرف "جيمس روزانو" أحد علماء السياسة الأمريكيين العولمة على انها العلاقة بين مستويات متعددة لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة، والأيدولوجيا.
بينما يعرفها الدكتور "مصطفى محمود" بأنها مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي بحيث لا يبقى منه إلا خادم للقوى الكبرى.
 
ان العولمة ظاهرة  تاريخية تبلورت علميا مع نهايات القرن العشرين، وكانت اهدافها واضحة وجلية المعالم، كنهها هو الاقتراب والتوحد فكريا، اقتصاديا، سياسيا، وثقافيا بشكل نمطي ملازم للتطورات والتغييرات الموجهة باتجاه واحد، عالميا.
وإن قمنا بتحليل هذا المفهوم والتوسع في ادراكه عمليا، قد يتخذ المجتمع منحنى أكثر عمقا واتساعا في اسقاط الضوء على العولمة بشكل واقعي يتحدث بصدد مظاهرها في الأسر والمجتمعات، ومن هذه المظاهر:
١)المظاهر الاقتصادية :
والتي تتمثل في زيادة معدلات التجارة العالمية وحركة انتقال التكنولوجيا ورأس المال، والمتمثلة في التعاون الاقتصادي المتنامي، لمجموع دول العالم في تمويل المؤسسات الإنتاجية أو الخدمية وتسارع عمليات تحرير التجارة العالمية.
٢) المظاهر الإعلامية :
والتي تتمثل في زيادة التدفق الإعلامي عبر الحدود الوطنية للدول وهذا التدفق الإعلامي يتمثل في شبكة الاتصالات منا ينعكس على المجتمعات بالرخاء والتماسك، فالثورة المعلوماتية تؤدي إلى مزيد من الارتباط والتداخل بين مختلف مناطق العالم.
 
٣) المظاهر الاجتماعية والثقافية للعولمة :
وتتمثل في انتشار بعض الأنماط السلوكية من عادات وتقاليد اجتماعية وأنماط الفن بأنواعه سواء فن العمارة أو فن المسرح أو خلافه.
 
إن العولمة سيف ذو حدين فكما ذكرنا الإيجابيات فهناك بعض الفئات المجتمعية ترتئي انها معززة بالسلبيات والمضار، ومن وجهة نظر بعض الفئات فهناك بعض الآثار السلبية للعولمة، والتي تتمثل ب
1) سحق الهوية والشخصية الوطنية المحلية وإعادة صهرها وتشكيلها في إطار الهوية الشخصية العالمية فقد يفقد الفرد مرجعيته وقد يتخلى عن  انتمائه وولائه وينتصل من جذوره.
2) سحق الثقافة والحضارة المحلية الوطنية وإيجاد حالة اغتراب ما بين الفرد وتاريخه الوطني والموروثات الثقافية والحضارية التي انتجها الآباء والأجداد.
3) دخول الأسرة في حالة من التفكك، حيث فقدت الأسرة مضمونها الحقيقي، وتم إحداث تغيير في بعض القيم والمفاهيم الأساسية كالقيم الأخلاقية والعقائد.
4) زيادة نسبة الطبقة الفقيرة والأقل من المتوسطة والانحسار التدريجي للطبقة الوسطى.
5) إن للعولمة تأثيرا مباشرا على التقاليد والعادات وعلى عادات الملبس والمأكل من حيث اختلافه في الطريقة والنوعية.
6) أصبح العالم قرية صغيرة، لكنها للأسف قرية مفككة، فالطفل يمكن أن يجلس امام جهاز الحاسوب خمس ساعات متواصلة لكنه منفصل تماما عن عالم أسرته.
7) ساهمت العولمة في زيادة نسبة الطلاق والخيانة الزوجية والانحراف والمخدرات والجريمة ومعظم الظواهر الاجتماعية السلبية.
 
وفي الختام رغبت ان اضيف رأيي الشخصي فيما يتعلق بالعولمة ومدى تأثيرها على الأسر والمجتمعات.
إن هذا الكم من التقارب والحداثة والتطور المقرون بقوة العقل البشري، والذكاء الفطري الذي أودعه الله تعالى فينا كبشر أسوياء قادرين على الإبداع والتقدم والعطاء..
ولو قمنا بإلقاء نظرة على كل سلبيات العولمة ومدى تأثيرها على الأسر والكيان البشري، ثم قمنا بتسليط الضوء على المجتمعات قديما، والحضارات السابقة، لوجدنا أيضا من تلك السلبيات ما كان متواجدا بشكل فعلي حتى قبل ظهور ما يسمى "بالعولمة".
إن كل هذه الأطر بإيجابياتها وسلبياتها منوطة بشكل فعلي بالعنصر البشري، والفطرة السليمة المودعة لدى البشر، عمق تمسكهم بالقيم والأخلاق والدين، قوة التحكم في الذات والإرادة، المناعة والحصانة وقوة المقاومة.
فمن امتلك جميع هذه الأسلحة فلا عولمة أو أية مؤثرات خارجية تستطيع النيل من أي كيان أسري، ولو قام كل فرد بدوره في هذا المجتمع على أكمل وجه وأتم صورة لما حصل هذا الاستعمار الفكري، والاستغلال الثقافي لنمطية الأسرة الأصيلة وبنائها..
إن متانة هذا البناء الأسري نابع مما نمتلكه من فكر سوي، وأخلاق مكتسبة بالفطرة، واذا تم استغلال زمن العولمة بالشكل الذي يجدر به أن يكون، فقد تتغير كليا وجهة هذا الموكب العالمي المتسارع.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد