جاء يذكرني بعطايا ابي، نظرت في عينيه، اختفى بريقهما، لمست يديه، جفت نبضاتهما، اي حمل ناء به هذا الجسد المكتوم داخل بذلة مترهلة قديمة.
دخل البيت، وقف يقرأ لوحة حجرية منقوشة، منصوبة على جدار البيت الأمامي، يقرأ كأنه يحفظها عن ظهر قلب.
- اله غالب، انه في يوم 9/4/1942 الموافق 24 ربيع الأول 1361
- ... عمي ابو مصطفى، انت نقشت العبارات والزخارف ووردة عنق التين.
-بزهو البركة المقدس ادخلوها آمنين.
صدمني، حرك نهاري المتعب، تذكرت الاب الذي اصر على ان ينقش ويشذب الحجر النابلسي العم ابو مصطفى، ترك عائلته، بنى معرشاً صغيراً في حوش الارض، وكان يربط نهاره بليلة يلعب لعبة العشق الغامض يغني صوفية متأصلة.
دخل يحوقل ويبدي التعاويذ من الشيطان الرجيم، ثم طاب لي صوته العاشق:
(.. الله الله..
الله مالنا مولى سوى الله)
نزلت دموعه، انهار، سقط كأنه اشتات شبح تعلق بين السماء والأرض، ملت عليه احاول مساعدته على النهوض، تململ وتكدر،، ارتكز على ساعدي، جلس على كرسي من القصب البامبو العتيق، عاد، يبتهل:
.. (كلما ناديت اياه..
قال يا عبدي انا الله).
ناديت ابنتي الصبوحة،وأعدت النداء على خدمتنا فيرا، قلت بأعلى صوت:
-صباح، يا بابا، فيرا تعالوا بسرعة.
أحضرت الخادمة الكرسي المتحرك، كان صوت ابي مصطفى يهوى يجرجرني معه في غياهب غامضة:
-... لي حبيب مستجل ملأ الكون سناه
سناه
امسكنا ثلاثتنا الرجل الصوفي الغامض، يغالب صوته هدوء مدخل بيتنا، تابع شهوة التجلي:
-نظرة الينا يا الله
انت الشافي يا الله.
صفى مزاجي لحظات، عدت إلى مدخل البيت، نظرت مطولا إلى اللوحة الحجرية،،
شرب الماء من يد صباح، نظر بعمق في هالتها ـ التزامها بلبس ايشارب اسود منقوش الاطراف ويتهدل على منطقة الكتف والرقبة والصدر،غمغمات وثقل لسان:
-بارك الله بالصبوووحة..
..(لي حبيب مستجل ملأ الكون سناه
وبالقلب حل فحل به هداه
عنه طرف العين كلا وهو في قدس علاه
ابدا حاشي وكلا ان يرى القلب سواه
الله الله الله ما لنا مولى...)
..قلت للطبيب اسرع لنكشف على كبير حراس بيتنا، وصل بحذر، عاتبني:
- لماذا اخفيت على اسم المريض؟
- لأنني انا المريض، هو حارسنا الذي يبتهل لنا نهاره كما نقش برازخ جدرات وشرفات هذا البيت يا حكيم.
ما ان اقترب الحكيم، نبه الحجار الصوفي الحارس:
-..(احرق العشاق بدر حين حي بالظلام
وجلا طيا بنشرا بين ارباب الغرام
الله الله الله ما لنا مولى سوى الله
كلما ناديت اياه قال يا عبدى انا الله
الله الله).
أصاب الحكيم، أكد لي ان الصوفي ازداد غموضا، فقد بات يصاب بالتوتر والارهاق كلما مر على واحد من البيوت التي افنى زهرة حياته لاعبا ماهرا يجمل صفوان الصخر ويرقق حب الجمال والرضا في بيوت القدس العتيقة.
نام ليلته بحلة بالازميل وقشاطة الصخر، حجر يتباهى به اعوان اناس وتهبط عليه ملائكة الرحمن، لا تعلق بزخارفة ارتال وهوام الجن، فقد ابهرني ابا مصطفى عندما بين لي كيف كان يشتت جن الدور والمعمار.
فقط مجرد ابتهالات، روحانيات لا تخفت، طيف يسبح حول البيت وأهله:
-..نحن ببابك باعتابك
نحن في بابك وفي رحابك