أطلقت الصين مبادرتها في إحياء طريق الحريرالقديم وسط الكثير من الترقب في العالم وخاصة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك نتيجة للصراع الدائر حول مناطق النفوذ والممرات التجارية البرية والبحرية والمائية. ولا سيما أن هذه المبادرة جاءت من ضمن الخطط الصينية طويلة الأمد للتنمية ، فقد طرحت الصين ثلاثة خطط على مدار عشر سنوات لكل منها ، أولها كانت خطة "صنع في الصين" والتي بدأت من العام 2015 والتي ستمتد إلى العام 2025 وتهدف هذه الخطة إلى لفت أنظار العالم على أن الصين قادرة على تصنيع كافة المنتجات التي تحتاجها البشرية وفي كافة المجالات وبكفاءة تفوق نظيراتها في الدول الصناعية المتطورة. أما الخطة الثانية فهي" العقل الصيني" والتي ستكون مكملة للخطة الأولى وستبدأ في العام 2025 وستمتد إلى العام 2035 وتهدف هذه الخطة إلى الاهتمام في المجالات الأكثر حيوية التي تتعلق بالتقنيات الإلكترونية المتفوقة والذكاء الاصطناعي. أما الخطة الثالثة فلم تُسميها بعد على الرغم من أنها أشهرتها بإعلانها التي ستكون مكملة للخطط السابقة،و ستبدأ في العام 2035 وستمتد إلى العام 2049 والتي تصادف الذكرى المئوية لتأسيس الصين الحديثة منذ ثورة ماو تسي تونغ عام 1949 .
قبل أن نتكلم عن طريق الحرير التي تعيد إحيائها الصين، دعونا نلقي نظرة سريعة على التاريخ القديم للتجارة الصينية ليتسنى لنا فهم ما يجري الآن. طريق الحرير اسم قديم يعود تاريخه إلى العام 1877 عندما اطلق العالم الجغرافي الألماني فرديناند فون ريتشهوفن على طريق المواصلات لتجارة الحرير بشكل رئيسي بين الصين والجزء الجنوبي والغربي لقارة آسيا الوسطى والهند إسم " طريق الحرير" وبواسطة هذا الطريق كانت تجري التبادلات الواسعة النطاق في السياسة والتجارة والاقتصاد والثقافة بين مختلف القوميات والمناطق. وفي واقع الأمر إن طريق الحرير لم يكن طريقاِ واحداً، بل عدة طرق فرعية تصب في طريقين أحدهما صيفي ، والآخر شتوي ، وكانت هذه المسالك منذ القرن الخامس قبل الميلاد للمبادلات التجارية بين البلدان والتي ساهمت في ازدهار وتبادل التجارات المختلفة والثقافات بين الشرق والغرب. وعن طريق انتقال الحرير الصيني إلى أوروبا عرف العالم الصين ، ومع مرور الوقت انتقلت الطرق من اليابسة إلى البحر عندما اكتشف التجار أن الطرق البحرية أكثر أمناً من الطرق البرية ، فاندثرت طريق الحرير واستُخدمت المسارات البحرية بدلاً منها.
حديثاً طرحت الصين مشروعاً عملاقاً لإعادة احياء طريق الحرير عام 2013. هذا المشروع العملاق الذي تتخطى كلفته المبدئية حاجز ال900 مليار دولار كانت قد رصدتها الصين في الاستثمار في البنى التحتية للدول التي سيمر فيها الطريق عبر تطوير شبكة الطرق والخطوط الحديدية والمطارات والموانئ وتطويرها لتربط بين آسيا وأوروبا، في حين تقدر حجم التكلفة التقديرية الكلية لهذا المشروع ما يقارب ال 8 ترليون دولار، سيتم استثمارها في 68 بلد على طول هذا الطريق ، وتشكل هذه الدول ما نسبته 65% من سكان العالم وتنتج ما قيمته 40% من الإنتاج العالمي. فنحن نتكلم عن مشروع من الضخامة بحيث يصعب وصفه، ويهدف إلى تعزيز الحوار والتعاون والتبادل بين مختلف الشعوب بحيث تصبح الصين فيه هي الدولة المسيطرة بلا منازع على طرق المواصلات بينها وبين أسيا وغرب أوروبا. ومن أجل نجاح تنفيذ هذا الهدف قامت الدولة الصينية بتأسيس صندوق استثماري برأس مال يبلغ مليارات الدولارات لتمويل مشاريع البنية التحتية على طول الطريق والتي جاءت تحت عنوان" طريق واحد وحزام واحد" ليكون طريقاً للسلام والتجارة الحرة. وتأكيداً لذلك دعت الصين عام 2019 لعقد قمة عالمية تحت مسمى " منتدى المبادرة" بمشاركة 37 دولة من ضمنها بعض الدول العربية مثل، مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة التي شاركت كلاهما في هذا المنتدى ، في حين قاطعته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي باستثناء إيطاليا وقبرص. وفي هذا المنتدى أكد الرئيس الصيني شي جينغ بينغ على أهمية هذا المشروع بالنسبة للصين والدول الواقعة على مسار الطريق واعرب عن التزام بلاده في ان تكون مشاريع طرق الحرير صديقة للبيئة وذلك رداً على التنديدات والانتقادات الأوروبية والأمريكية بهذا الخصوص.
هذا المشروع يعد تهديداً مباشراً لمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي كما تزعم لأنه يشكل نوعاً من الاستقطاب الدولي الكبير للصين في مواجهة الاستقطاب الرأسمالي القديم للولايات المتحدة واوروبا لدول العالم الثالث، وقد يشكل خطراً مباشراً من الممكن أن ينهي سيطرتها المباشرة على تلك الدول وقد ينهي هيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى، وهو ما لا تريده الإدارة الامريكية وتحاربه وتحارب الصين باستخدام نفس الذرائع والأكاذيب التي لن تلقي أذاناً صاغية بعد اليوم بحيث سيطوي التاريخ صفحة أمريكا المشينة من تاريخ البشرية. إن أهمية مشروع طريق الحرير في أنه يمثل الرؤية المستقبلية السلمية للصين في الاستقطاب الدولي والذي يلاقي نجاحاً وقبولاً من قبل الكثير من دول العالم في ظل إنعدام رؤية أمريكا لمستقبل العالم غير الدمار والحروب وسياسات الفقر والتجويع والنهب والتركيع لكافة شعوب العالم وفرض سياساتها عليها بالقوة ، بالإضافة إلى دعم المنظمات الإرهابية ومدها بالسلاح وتسويقها بخطط جهنمية للضغط على الدول التي تريد اخضاعها ونهبها والاستفادة منها ومن ثم الظهور أمام العالم والاعلام وعدسات المصورين في مظهر المنقذ للبشرية والشرعية الدولية وغيرها من الأكاذيب التي تعودنا أن نراها دوماً. فهل سنرى المزيد من العنف والتعنت الأمريكي في عرقلة هذا المشروع العملاق في ظل الإصرار الشديد للصين على المضي قدماً في إنشاءه . هذا ما سنراه في قادم الأيام.