لا يخفى على أحد أن السياسة بمفهومها العام مهما حاولت أن تكون أخلاقية وعادلة ونظيفة لعبة تنطوي على قدر كبير من الخداع والتلاعب والخبث والرذيلة والقذارة. ولا ننسى أن العديد من الأنظمة في العالم، بما فيها التي تدعي الديمقراطية، مازالت تعمل بمبادئ ماكيافيلي، وخاصة مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» وهو كما هو معلوم مبدأ قذر للغاية يبرر للساسة ممارسة كل أنواع الموبقات والرذائل والجرائم بحجة أنها تخدم المصلحة السياسية والوطنية. باختصار شديد، فإن السياسة نجاسة مهما رفعت من شعارات جميلة. وقد لخص الزعيم البريطاني الشهير ونستون تشيرتشل السياسة بعبارة دقيقة للغاية.
ويُحكى أن تشيرتشل رأى شاهد قبر مكتوب عليه: «هنا يرقد السياسي العظيم والرجل الشريف فلان الفلاني» فقال: «كُنت أعرف أن إنكلترا تُعاني نقصاً في المدافن، لكنني لم أتخيل للحظة أن الأزمة قد استفحلت إلى حد دفن السياسي العظيم والرجل الشريف في نفس القبر!!» بعبارة أخرى، لا يمكن أن يلتقي الشرف مع السياسة، فما بالك أن يتواءم الدين المفروض أنه قائم على الأخلاق والفضائل مع السياسة القائمة على الدجل والنفاق والخبائث واللف والدوران؟ وكم كان الشيخ محمد متولي شعراوي مصيباً عندما قال: «أتمنى أن يصل الدين إلى أهل السياسة وألا يصل أهل الدين إلى السياسة». وهي بالطبع أمنية مستحيلة التطبيق، لأن الدين والسياسة لا يلتقيان مطلقاً، لأن الدين مجال الفضيلة والطهارة، والسياسة مجال اللافضيلة كي لا نقول مجال القذارة.
ولعلنا نتذكر رئيس الوزراء البريطاني الشهير طوني بلير الذي رفع ذات يوم شعار «ممارسة السياسة بوازع أخلاقي» وهذا الشعار لوحده يقول لنا إن السياسة لم تكن يوماً قريبة من الأخلاق إلا ما رحم ربي. وللعلم أن طوني بلير الذي أوهمنا أنه يريد أن يقلب الموازين ويحاول ممارسة السياسة بنفس أخلاقي شارك الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في غزو العراق وتهجير شعبه وإعادته إلى العصر الحجري. يا للأخلاق.
وبالتالي من العبث إقحام الدين والأخلاق في السياسة، ناهيك عن أن الدين ليس واحداً، فحتى في الإسلام هناك ألف إسلام وألف توجه، وكل دولة تطلق الفتاوى الدينية وتبرمجها وتؤدلجها وتحرّفها حسبما يخدم مصالحها السياسية بالدرجة الأولى.
لا عجب إذاً أن تجد مفتي سوريا مثلاً أقرب إلى العلمانجيين المتطرفين منه إلى الإسلاميين، لأن النظام الذي يمثله يحاول أن يرتدي لباس العلمانية الفاقع والمزيف، وهو أبعد ما يكون عن العلمانية الحقيقية. وكذلك الأمر بالنسبة للأنظمة العربية الأخرى التي تفصل إسلاماً خاصاً على مقاسها بما يخدم توجهاتها، لهذا تجد مثلاً مفتي السعودية كان يختلف عن مفتي سوريا مائة وثمانين درجة. ولا ننسى هنا أن الدول تستخدم الدين وتطوعه حسب الظروف، فعندما كان الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفييتي على أشده، أمرت أمريكا حلفاءها في العالمين العربي والإسلامي بتبني نوع متطرف من الإسلام قادر على انتاج الجهاديين لمحاربة المد الشيوعي في المنطقة ولاحقاً في أفغانستان. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي بدأت أمريكا تتخلص من الأنظمة الإسلامية المتطرفة بعد أن أدت مهماتها في مقارعة الخطر السوفييتي.
عبارة أخرى، إذا كان الدين نفسه عبارة عن لعبة سياسية مفضوحة، فكيف يحاول البعض أسلمة السياسة أو تديينها؟ لاحظوا مثلاً أن لبنان محكوم على أساس طائفي (يعني ديني) أصبح مضرباً للمثل في الفساد والإفساد، لا بل تحولت عاصمته إلى أكبر مزبلة في الشرق الأوسط. وكذلك العراق الذي دمرته الأحزاب الدينية والطائفية وأعادته عقوداً إلى الوراء.
إن أسوأ أنواع الأحزاب السياسية هي الأحزاب العقائدية وخاصة التي ترتدي لباساً دينياً، فهي فاشية وعنصرية بالضرورة نظراً لتركيبتها العقدية الشللية العصبوية المنغلقة التي مهما حاولت أن تكون عادلة تبقى متحيزة ومنحازة ومتعصبة لمن يواليها بالتوجه فقط على أضيق نطاق.
مخطئ من يعتقد أن الحزب الديني من أي دين كان سيخدم كل الطوائف والمذاهب والاتجاهات التي يدعي تمثيلها. مستحيل، لأن في معظم الأديان هناك تمييز ضد هذا المذهب أو ذاك داخل الدين الواحد، ولا ننسى أن داعش وأخواتها مثلاً تعتبر العديد من أتباع المذاهب الإسلامية كفاراً مشركين وجب التخلص منهم.
فإذا كانت الأحزاب الدينية تمارس التمييز ضد المسلم لأنه يختلف عنها في بعض المسائل، فماذا ستفعل بغير المسلمين يا ترى؟ حتى الإسلام السياسي المزعوم لا يختلف عن داعش لأنه أيضاً بالضرورة سيكون متعصباً لمن والاه عقدياً دون غيره، وسيمارس التمييز ضد بقية المسلمين وغير المسلمين. وعندما يعتد هؤلاء بمقولة إن القرآن حمّال أوجه، توقع ماذا يُبنى على ذلك. ولا يختلف الأمر بالنسبة للأحزاب العقائدية غير الدينية كالبعثية والشيوعية وأمثالها، ولا تنسوا أن بعض الأحزاب التي تدعي العلمانية هي أحزاب داعشية بدون لحى، وربما أسوأ.
ولا أبالغ إذا قلت إن التطرف العلمانجي (وليس العلماني) أسوأ من التطرف الديني أحياناً، فالعلمانية الحقيقية أشرف بعشرات المرات من المتطرفين الدينيين وغير الدينيين. لهذا بدأت تظهر في العالم الأحزاب الوظيفية التي تركز في عملها السياسي على توفير احتياجات الناس دون الاهتمام بالجوانب العقدية في سياساتها، حتى أن الفروقات العقائدية قد اختفت إلى حد كبير بين الأحزاب اليسارية واليمينية في الدول الغربية، بعد أن صار معظم الأحزاب يتنافس على الخدمات التي يمكن أن يقدمها لناخبيه.
لا شك بعد كل هذا الكلام عن الحذر من الأحزاب الدينية، سيأتيك البعض ليقول لك: «نحن نريد من خلال أحزابنا الدينية تنظيف السياسة بالدين». وهذه طبعاً نكتة كبرى وطوباوية سخيفة مستحيلة التحقيق، وفي اللحظة التي يدخل فيها الحزب الديني السياسة، فإنه لن ينظّف المجال السياسي مطلقاً، بل سيتلوث به فوراً.