بداية دعونا نتّفق جميعاً بأن الأردن لا يُفكر ولم يفكر سابقاً ولن يفكر في المستقبل في تغيير تحالفاته الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية .. فالسياسة الخارجية الأردنية ومنذُ عقود طويلة لم تتعامل مع نظرية تعدد البدائل بشكل حقيقي على المستوى الدولي إلا في حدود ضيقة جداً.
فالحجم الأكبر من المساعدات التي تتدفق على الأردن هي أمريكية .. وأمريكا هي حليف استراتيجي للأردن Strategic Ally منذ خمسينات القرن الماضي في مجالات عديدة وكثيرة كالأمن والدفاع والإستخبارات .. وهي الداعم الأكبر للإقتصاد الأردني.
و العلاقة معها تُشكّل واحدة من أهم شبكات الأمان التي يعتمد عليها الأردن في حفظ أمنه واستقراره داخل إقليم مضطرب ومُلتهب.
فالساسة في واشنطن يصفون الأردن أنه حليف استراتيجي مهم لهم .. وأن الأردن يعمل على وضعية الطيّار الآلي بالنسبة لهم.
علماً بأن الأردن لطالما واجه وعانى خيارات قسرية وصعبة إزاء تحوّلات السياسة الأمريكية في المنطقة .. وفي منهجية التعامل مع تلك السياسات .. وبات في معظم الأوقات لا يملك خيارات الرفض إلا في حالات قليلة جداً فيما يخص القضية الفلسطينية والقدس وحقوق اللاجئين.
وأنا فعلياً لستُ هنا بصدد الدفاع عن الإتفاقية من حيث مضمونها وفحواها وشروطها وتأثيرها على السيادة الأردنية ... فالإتفاقية جاءت وفق الشروط الأمريكية .. علماً بأنها لم تكن سرية ولم تكن عبارة عن تمديد لإتفاقية سابقة كما أشار لها البعض .. حيث لم يجرؤ مجلس النواب على مطالبة الحكومة بعرضها على المجلس إمتثالاً للدستور وحسب ما جاء بالمادة ٣٣ فقرة ٢ منه.
رغماً أنه كانت هناك سابقاً اتفاقيات أخطر منها تم عرضها على مجلس النواب كإتفاقية السلام مع إسرائيل عام ١٩٩٥ ونالت موافقة المجلس حينها.
وهناك أيضاً اتفاقيات كانت بمنتهى الخطورة ولم يتم عرضها على مجلس النواب كإتفاقية الغاز وكازينو البحر الميت وجدولة ديون الأردن في نادي باريس عام ٢٠٠٨ .. والكثير الكثير من اتفاقيات الطاقة كالعطارات وغيرها.
فالإتفاقية الدفاعية مع أمريكا أثارت ضجة واسعة النطاق على وسائل التواصل الإجتماعي تضمنت تنوعاً سياسياً غير مسبوق.
فبعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أُخترق فعلياً أمن النظام العربي .. وبدأت أمريكا تشن حرباً ضد عدو مجهول وغامض .. وباتت تلعب وتُمارس لعبة القط والفأر مع دول المنطقة.
الأمر الذي أدّى بروسيا أن تسعى جاهدة لشغل موقع متوسط على رقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد .. فهي تُشكل حلقة ربط في الكتلة الجيوسياسية والأوروآسيوية وباتت أكثر حسماً وتصميماً في الدفاع عن مصالحها في المنطقة.
وإيران أيضاً بدأت بلعب دور القائد الإقليمي مستفيدة من فراغ القوة في الإقليم فتوسعت إلى أربع عواصم عربية .. وتركيا إلى ثلاثة دول .. فما يجمع روسيا وإيران وتركيا والصين معهما أكثر مما يُفرقهم خاصة وأن الإقتصاد يُرمم ما تتلفه السياسة.
فوزير الخارجية الصيني (رانغ يو) اختتم قبل أيام زيارة للسعودية، تركيا ، إيران ، الإمارات ، البحرين و سلطنة عمان و أعطى إشارات واضحة على أن الصين لا تنوي البقاء في موقع الشريك الإقتصادي و التجاري والمستورد للنفط من المنطقة فقط .. بل تعتزم الصين التحول إلى فاعل جيوسياسي و أمني يلعب دوراً محورياً في شؤون الشرق الأوسط.
فأمريكا في العهد الجديد لبايدن حسمت تعاملها في منطقة الشرق الأوسط وفقاً لرؤيا استراتيجية خاصة بها تتسم على كسر شوكة النفوذ الروسي والإيراني والتركي والإقتصادي الصيني .. وهذا ما صرح به البروفيسور الأمريكي Anthony Arend المُحاضر في جامعة GeorgeTown الأمريكية من أن مستقبل النظام العالمي حالياً بات في خطر وأن وضع منطقة الشرق الأوسط بحاجة إلى استقرار الفوضى به .. وأن العالم الآن هو عالم التحالفات لإستكمال طوق الحصار على روسيا من على جناحها الجنوبي الغربي وإفشال مشروع طريق الحرير الصيني .. والخوف من تحالف جيواستراتيجي بين موسكو وبكين للسيطرة على النظام العالمي.
فالنظام العالمي الذي تسعى إليه حالياً أمريكا يجب أن يكون وفقاً لسياستها خاضعاً لمتطلبات الإقتصاد الأمريكي من خلال التعبير الإقتصادي للإطار السياسي .. وأن تكون أمريكا في عالم لها فيه سلطان لا يُنازع ..
فإنتشار القوات الأمريكية في المنطقة ما هو إلا بداية لمشاريع أمريكية جديدة وعلى درجة عالية من الأهمية .. وإن الإتفاقيات العسكرية والدفاعية التي تعقدها أميركا تعتبر ركيزة أساسية لسياسة الأمن القومي الأمريكي.
فالشرق الأوسط الجديد والكبير والأردن الجديد والشام الجديد واتفاقيات إبراهيم ومواصلة تنفيذ مشروع المُحافظين الجُدد للشرق الأوسط لضمان أمن إسرائيل لعقود قادمة كُلها مشاريع أمريكية الصُنع همّها الأول والأخير تطويع المنطقة العربية لإسرائيل وإدخالها في اقتصادات الإقليم.
فمخاوف الأردنيين وتوجّسهم من الإتفاقية الدفاعية مع الولايات المتحدة الأمريكية مشروعة .. فالرّيبة من تلك المشاريع الغامضة بالمنطقة والخوف من سيناريو الفوضى والأزمات على حاضر ومستقبل المنطقة ... فقد سبق لإسرائيل قبل عدة سنوات أن طرحت مشاريع كالتي ينادي بها الأمريكيين.
فالمتابع لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية يرى أنها كلما قامت بمشروع جديد هنا وهناك مهّدت الأرضية المناسبة لإنجاحه من خلال الفاعلين المحليين الذين توكل لهم مهمات كبيرة.
فالكاتب والصحفي والروائي الأمريكي David Ignatius العامل في جريدة The Washington Post نشر مقالاً عام ٢٠١٨ قال فيه أن أمريكا أنفقت حوالي ٣٠٠ مليون دولار في الأردن لتوسيع قاعدة موفق السلطي الجوية وقاعدة ال H-4 من أجل الطائرات من غير طيار .. وأن أمريكا تسعى لتأمين وجود مستدام لقواتها في سوريا خصوصاً عند مثلث الحدود السورية العراقية والسورية التركية.
فرغم تغير الزمان وتبدل المكان تبقى سياسة أمريكا ثابتة لا تتغير من منطلق لا صداقة تدوم ولا وفاء لأحد يستمر ..فأعداء الأمس قد يصبحون أصدقاء الغد والعكس صحيح بإستثناء إسرائيل .. وهذا يوضح سياسة المعايير المزدوجة للولايات المتحدة في التعامل مع دول المنطقة كافة.
فالإعتقاد والإعتماد على حسن النوايا بها خطر كبير .. فالصداقة المفقودة معها لا تُحسب ضمن خسائرها .. فالديموقراطية الأمريكية والتي هي أداة من أدوات السياسة الخارجية لهم تُمارس بشكل انتقائي .. فما يتوافق معهم يُعد ديموقراطي ومن يتعارض معهم فهو غير ذلك .. فمسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان اللّتين يتغنون بهما لسنا نحن المقصودين بها .. فالمقصود هو روسيا والصين وتركيا و كوريا الشمالية أحياناً .. فالصراعات السياسية في العالم لن تنتهي بأي شكل من الأشكال وهذا هو حديث التاريخ ومنطقه .. وهو أمر سيستمر في الحاضر والمستقبل فالحقائق في الإقليم وفي منطقة الشرق الأوسط تفتقد الجرأة والصراحة.