نشر الاستاذ الدكتور محمد بني سلامة مقالا في السوسنة عام 2019 بمناسبة تعيين اللواء احمد حسني مديرا لدائرة المخابرات العامة ، جاءت متوافقة مع الرسالة الملكية التي وجهها جلالة الملك للواء حسني قبل ايام ، لذا نعيد نشرها :
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة مفتوحة الى عطوفة اللواء احمد حسني مدير دائرة المخابرات العامة
السلام على من اتبع الهدى وأدعو الله ان تكون منهم اما بعد ،
لقد قرأت بتركيز شديد الرسالة الملكية لعطوفتكم بمناسبة توليكم قيادة جهاز المخابرات العامة ، واكتب اليك مباشرة دون حواجز او قيود، لأننا في الاردن تعودنا ان تكون علاقة المواطن بجهاز المخابرات علاقة ثقة وهيبة واحترام ، لا علاقة خوف ورهبة وانتقام مثل ما يحدث في مخابرات الانظمة التسلطية التي عنوانها : الداخل مفقود والخارج مولود.
ان قرار جلالة الملك منحكم الثقة لتولي ادارة الجهاز لم يكن وليد الصدفة في ضوء ما سمعنا عن خصالكم الحميدة وخبراتكم المتراكمة وشخصيتكم الفذة ، وأنت القادم من اصول شركسية ذات ارث وطني عميق وراسخ في الاخلاص للنظام ، والانتماء للأردن ، والتاريخ يشهد لكم لا عليكم.
واليوم وانتم على راس هذا الجهاز السيادي ، اكثر الناس ادراكا لحساسية وصعوبة المرحلة التي يمر بها الاردن ، حيث كثير من الجهات لا تريد الخير للأردن ، الذي بات مستهدفا نظاما وشعبا ، الا ان ثقتنا بحنكة القيادة ووعي الشعب وقدرات قواتنا المسلحة وحرفية اجهزتنا الامنية هي البوصلة التي نهتدي بها في تجاوز هذه المرحلة الى مستقبل افضل ، وحياة اكثر يسرا وعدالة واستقرار.
اننا نتطلع ان يمثل عهدكم قطيعة مع العهود السابقة التي انتقلت فيها دائرة المخابرات من ضبط المشهد السياسي الى ادارته والتحكم بكافة تفاصيله ، فعندما كانت الدائرة معنية بضبط المشهد،كانت تتدخل ضمن واجباتها ومهامها بحماية الامن الداخلي والخارجي ، فتعيين سفير للبلاد يستدعي حكما استشارة الدائرة ، ولكن عندما انتقلت الدائرة الى ادارة المشهد بالكامل، اصبحت تعين السفراء والكثير من الوزراء والأعيان والنواب ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات وقائمة طويلة من المواقع القيادية في الدولة ، حتى اصبح الاردن على اعتاب دولة شمولية والانتقال من مخابرات الدولة الى دولة المخابرات ، وكان من نتائج هذه السياسة ما نراه اليوم من ممارسات في كثير من مؤسسات الدولة وخصوصا حجم الفساد الذي وصل الى اعتاب الدائرة التي كانت دوما محل ثقة واحترام الجميع ، وبعيدة كل البعد عن المصالح الخاصة وشبهات الفساد، ونؤكد في هذا المجال الحقيقة التي لا ينكرها الا جاهل او حاقد ، ان فرسان الحق حققوا انجازات اقرب الى المعجزات في الحفاظ على الامن والاستقرار .
ولعل من ابرز ما يؤخذ على تلك المرحلة انه كان يتم فيها تقديم الولاء على الانتماء ، والثقة على الكفاءة والجدارة ، فغابت العدالة وانتشرت الواسطة والمحسوبية ، وترسخ في الوعي الجمعي الاردني ان هناك حالة دائمة من التغييب القصدي لمبادئ الجدارة والاستحقاق في الواقع الاردني ، حيث صارت القاعدة ان يثب الى الامر من ليس اهلا له ، وان توسيد من يستحق مسالة استثنائية ، الكثير من الاردنيين بذلوا وضحوا وزرعوا ، ولم يحصدوا شيئا، وآخرون لم يعملوا ولم يقدموا ولم يزرعوا شيئا لكنهم حصدوا ألكثير وجنوا ثروات طائلة دون وجه حق.
وفي ظل هذه الظروف تراجعت الادارة العامة ، وزادت هشاشة الدولة ونقصت شرعيتها ، وفقدت الثقة بين المواطن والمسئول ، وزاد التوتر والاحتقان ، وانتشرت مشاعر الاحباط والقلق والغضب بين الاردنيين وخصوصا في ضل استبعادهم من المشاركة الحقيقية في صنع القرار الذي يمس شؤونهم اليومية وتطلعاتهم المستقبلية وأجيالهم ألقادمة فلا عجب ان خرجوا للشوارع منادين بالإصلاح الحقيقي والمكافحة الجادة لكافة انواع الفساد .
عطوفة اللواء احمد حسني الاكرم
بين أيدينا اليوم فرصة حقيقية وربما نادرة لتغيير مدروس هادئ، يصحح الأخطاء ويعدل مسار السياسات العرجاء التي اتبعت من زمن طويل ، لأسلوب حكم وسياسة لم تعد تجدي نفعا ، وتغيير اشخاص لا يحسنون قولا إذا تحدثوا ، ولا يفقهون إذا فكروا ولا يجيدون إذا عملوا ، ولا يؤتمنون إذا استوزروا، لم يعد لديهم ما يقنع الناس ، ولم يعد بإمكانهم أن يصلحوا ما افسدوه ، وقد أعطوا فما ابقوا ، انهم نخب فاسدة ومستبدة و فاقدة للشرعية ان الاوان لرحيلها وتجديد الدماء في الدولة الاردنية .
بين أيدينا اليوم فرصة سانحة للتغيير في الاتجاه الصحيح ، نحو نهضة حقيقية و اقتصاد قوي ، وتعليم جيد ، ووضع المال العام بالأيدي الأمينة ، ومؤسسات حكم راشد ، وسلطة تشريعية كفؤة تسن تشريعات رشيدة ، وقضائية مستقلة وغير مكبلة بأجندة السلطة التنفيذية ، وسلطة تنفيذية فاعلة وصاحبة ولاية عامة كاملة غير منقوصة .
تغيير جدي نحو مسار صحيح في اتجاه ثقافة ديمقراطية مدنية ، وإعلام ناضج مسؤول، اعلام دولة لا حكومة ، وتربية وطنية أصيلة ، ورأي عام مستنير ، وعمل منتج لإنجازات حقيقية لا تأكل من المال أكثر مما تستحق ، ولا من الجهد اكبر مما تستدعي ، ولا من الوقت إلا ما تستدعي .
بين ايدينا فرصة جيدة لتغيير سلوك اهدار المال العام ، والارتشاء والمحسوبية والوساطة ، والإغتناء غير المشروع ، تغيير سياسة الإفقار ، والتجهيل والتخوين ، والإقصاء والتهميش ، سياسة ابعاد الكفاءات ، وتقديس الولاءات .
أمامنا اليوم فرصة للتفكير الجاد في الخروج من الازمة التي بعيشها الاردن بإعادة صياغة سياسات بديلة تقدس الدستور والوطن والمواطن، وتحترم التداول على المسؤوليات ، تضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، فتعلم الناس ان يقولوا للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت ، وتقدس المحاسبة ، وتعلي سيادة حكم القانون وتحقق العدل للجميع ، وتنصف الناس ، وتعطي الحقوق ، وتحارب الفساد ، و تحث على التدين الصحيح ، وتشيع الأمن ، وتنشر الأمان ، وتجيد الإنجاز ،فتعيد اللحمة المفصولة ، والثقة المفقودة بين الحاكم والمحكوم ، بين الوطن والمواطن، فيستأنف الاردن مسيرته في التقدم والازدهار ويكون الدولة الانموذج في المنطقة .
فرصة إن فوتناها ، لا قدر الله ندفع ثمنها باهظا .
اللهم اشهد اني قد بلغت