أيام معدودات تفصلنا عن العام الجديد، وقد نتفق جميعا بأننا نودع عاما لم نشهد له مثيل على الأقل خلال عقود فائتة. فهذه الأزمة الصّحّيّة العالميّة الرّاهنة التي لا تزال فداحة تكلفتها الكلّيّة سواء من حيث إيقاع خسائر في الأرواح أو قطع سبل العيش غير معروفة ومبهمة وقد تمتد آثارها لسنوات أطول مما توقعناها.
ولا بد من جردة حساب سنوية للقيام بها على المستوى الشخصي والعائلي والمجتمعي والمؤسساتي، لانها أي سنة 2020 كانت سنة قاسية، وقد تعلمنا منها الكثير حتى وان لم نعترف بقرارة أنفسنا بذلك. ففي الأردن، فقد نشفنا نحن ولم يمت وينشف الفيروس، وتجربة الحظر كانت جيدة في بداياتها من حيث اكتشاف العائلات لاهمية الترابط الأسري الذي ارغمها على المكوث سويا في المنزل ومن ثم انقلب الى عنف شديد من جراء الضغوطات المعيشية التي خلفتها الازمة اقتصاديا على بعض الأسر، فشهدنا عاما غير مسبوق في زيادة ارقام وحجم العنف المنزلي. وقضينا ساعات طوال مع شاشات الكمبيوتر نحن وابنائنا الذين حرموا من أمور كثيرة فقدوها بالتعليم الالكتروني. كما حضرنا عدة ندوات وحوارات حتى مللنا من تكرار محتواها ويبدو انها فقدت بريق الخلاقية في نقل الفعاليات من الواقعي الى الافتراضي. الا انها اعطتنا الفرصة لتقييم جميع هذه المشاركات وأصبحنا انتقائيين في حضورها.
ويبدو ان الفيروس الذي عرّى أمور كثيرة كانت مجّملة تحت شعارات المساواة والعدالة الاجتماعية، فهو أي الفيروس قد كشف الطريقة العنصرية والكره للأجانب الذي تعاملت به بعض الدول مع اللاجئين اوالعمالة الوافدة او ذوي البشرة السمراء. وبعد أن شاهدنا كيف ان هذا الفيروس كان يخفي صورة قبيحة لدول كانت تتغنى بالحريات وبالمساواة والكرامة، وهذا يدل على ان الاضطهاد والعنصرية لا يزالا متأصلان في أعماق النفوس.
وما بين أوامر الدفاع التي شارفت على 25 في زمن قياسي وما صاحبها من انتزاع كبير لعادات وتقاليد لطالما ظننا بانها الأفضل ولكن الفيروس اللعين اجبرنا على التخلي عنها ونحن شعوب اجتماعية ولا نستطيع ان نكون سوى ذلك، فحرمنا من اقامة الولائم، والجاهات، والافراح، واقامة دور العزاء وحضور واجب مراسيم الدفن، واغلاق دور العبادة . ومنعنا عن تقبيل بعضنا والمصافحة، حتى بات معظم كبار السن وحيدين دون الالتقاء احيانا باحفادهم وابنائهم لفترات طويلة بسبب الحظر وتبعاته. ولا بد من الاعتراف هنا، بأن الوباء وضعنا امام أحد الاختبارات الأشد لقدرات نظامنا الاجتماعي الحالي في الاستمرار على البقاء بأطره الحالية ام لا بد من تغييره.
وبالرغم من قساوة هذا العام، الا اننا استطعنا التفكر بعمق في قيم مجتمعية غابت عنا في زحمة اللهاث السريع لمتطلبات الحياة ، وعلمنا ان تغليب الخير العام هو أمر أساسي لا بد منه، وان التكافل الاجتماعي هي سمة من سمات المجتمعات لان الجائحة ذكرتنا بأهمية المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق جميع أفراد المجتمع ، فالقادة الدينيين الذين لهم دور مهم في ترسيخ مفهوم العطاء والتكافل الاجتماعي لشرائح كبيرة تضررت اقتصاديا ونفسيا من هذا الوضع الذي فرضته (كورونا) البلدان، ناهيك عن المخاطر الصحية. والحاجة لرسائل اعلامية بمحتوى مدروس في كيفية بث الأمل والطمأنينة في المجتمعات، بدلا من تخويف العامة ، وبهذه الجردة السنوية قد نحتاج قبل ولوج العام القادم في التفكر في اسئلة جوهرية ووجودية مثل اعادة تفحص هويتنا والهدف من الحياة، وترتيب اولوياتنا، وفي التفكر بالجوانب القيمية التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى كالتعاضد المجتمعي، وقيم الرحمة والتكافل والعطاء. بالاضافة الى الحاجة للخطاب الديني المرتكز على العلم والدين وعدم اهمال الجانب العلمي . فينبغي للدّين أن يكون منسجماً انسجاماً تاماً مع العلم وأنَّه واحد من أهمّ عوامل السّلام والتّقدم المقدّر للمجتمع الإنسانيّ، فالخرافات ونظريات المؤامرة المصاحبة للقاح كثيرة.
إن مبدأ وحدة العالم الإنساني يضرب وتراً حساساً في أعماق الروح. وأثبتت الجائحة بأنه ليس مجرد شعار، ولكنه يعكس حقيقة أبدية بل وأخلاقية . هذه الحقيقة أصبحت أكثر وضوحاً الآن، لأن شعوب العالم أدركت بان إعتماد عنصر كل منها على الآخر ضرورة حتمية لبلوغها وادراكها لتحقق وحدتها الحتمية، وهذا ما اختبرناه أيضا في حاجتنا الماسة للتعاون في القضاء على المرض وأخذ اللقاح. مثل هذه المفاهيم تمثل خطوات فعالة نحو عالم يحاول تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكنها وحدها، لا تكفي اذا لم تقترن اقترنت بحسن النوايا.
فما قيمة لقاح يعطى لمجموعات وتحرم منه أخرى، في وقت اتسعت فيه المسافات وضاقت سبل الوقاية من العدوى كالنار في الهشيم لانها عابرة للقارات والحدود. وبما اننا شاهدنا كيف كان تأثير هذه الجائحة على الحركة نحو الوحدة بين الأمم، فاللقاح ضد كورونا لا بد من توفيره للبشرية جمعاء مهما تفاوتت أعراقهم ودخلهم.
أما اذا ما تطرقنا للاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وما صاحبه من حراكات فيسبوكية في هذه الجائحة فلن يتسع المقال هنا وللحديث بقية...