عمق الأزمة الفرنسية

mainThumb

03-11-2020 05:00 PM

"لهذا بنى المهاجرون أحلامهم في فرنسا!" وأسئلة أخرى
كيف يمكن لأكبر حدث تاريخي ملهم، مثل الثورة الفرنسية الخلاقة، التي يعتبرها أغلب المؤرخين من أهم الأحداث المفصلية التاريخية التي شهدتها البشرية وتأثرت بها شعوب العالم، وقد رمت بظلالها على أطراف الأرض، وألهمت شعوبا تفصل آلاف الأميال بينها وبين فرنسا، أن تفشل، وأن تنجب من رحمها دولة مدانة في كثير من مراحلها التاريخية المتقلبة، بسبب الجرائم التي ارتكبتها في مستعمراتها مطلع القرن العشرين؟ بينما تتشدق بنظامها العلماني القائم على حرية التعبير والعدالة الاجتماعية فيما تدير ظهرها لكل ذلك كما تفعل اليوم! السؤال بحد ذاته محيّر وعاصف للعقل المتوازن والمنطق الموضوعي.
واليوم يستعيد المهاجرون أحلامهم المنتهكة التي جاءت بهم إلى فرنسا متنسّمين فيها هواء الديمقراطية والحداثة وعطورها الناعمة الشهية، ليكتشفوا بأن حسابات البيدر غير حسابات الحقل، الذي بذر فيه اليمين الفرنسي في حرثه، نرجسيته منقلباً بذلك على مبادئ الثورة الفرنسية وقيم العلمانية التي تباهي فيها فرنسا الأمم.
الأزمة العنصرية في فرنسا وارتداداتها الإرهابية ما لبثت في بدايتها، ومن السهل وأدها لو توفرت الإرادة السياسية الجادة. فقد كان العلمانيون يتغنون بالديمقراطية ويروجون لصورة فسيفسائية حالمة لفرنسا، فيظهر فجاء اليمين المتطرف الذي أخذ يقوض كل ذلك.
 صحيح أن هناك إرهاب مغرض في عموم القارة الأوربية ولا بد من اجتثاثه، ولكن لا بد أن تبنى قوانين مكافحته على أساس أن هذا الإرهاب لا هوية له أو دين، وأن تتضمن مشروحات مصطلح "الإرهاب" كل الهويات التي تحتضنه، إسلامية كانت أو مسيحية أو حتى يهودية وصولاً إلى اليمين المتطرف. هكذا تعالج الأمور، فيتظافر الجميع بكل المكونات الأيدلوجية والعرقية للتصدي له بكفاءه.. لا بد من سن قوانين تحمي الأقليات وتحصّنها من الإرهاب في إطار قانون عام دون ذكر اسم أية فئة على حساب أخرى، كما هو الحال بالنسبة لقانون حظر معاداة السامية والتشكيك بمحرقة الهلوكوست. هذا هو جوهر العدالة. نحن مع فرنسا وفق ما تُسوّق من قيم تقوم على الحرية التي تقف عند حدود الآخرين، وعدالةٍ تظلل كلَّ أطياف المجتمع.. وفكرٍ مستوحى من المبادئ التي دعا إليها جان جاك روسو أحد منظري الثورة الفرنسية والمبشرين بمستقبل فرنسي مشرق ومتوازن..
لقد دعا "روسو" في جزء محذوف من "رسالة إلى كريستوف دوبومون" أعيد نشرها في كتاب "القرن الثامن عشر" الذي ساهم في كتابته المؤرخ الفرنسي "برنارد غانيبان" قائلاً: 
"تعالوا إذن أيها اليهود والمسيحيون والمسلمون، ولنفحص طبيعة الإنسان حسب نظامكم، وأعدكم أنني سأتراجع بدوري إلى مجالي إذا ثبت خطئي، لكن أرجوكم دعونا نحاول أن نتجادل كأشخاص عقلاء".
يعتبر "جان جاك روسو" أن "الحرية صفة أساسية للإنسان، وحق غير قابل للتفويت، فإذا تخلى الإنسان عن حريته فقد تخلى عن إنسانيته وعن حقوقه كإنسان". وهي دعوة مفتوحة للحوار تبناها فيلسوف الثورة الفرنسية، روسو، وواضع قيمها القائمة على الحوار والقبول بالآخر بعيداً عن المراوغة السياسية والمصالح الجهوية كما يحدث الآن في فرنسا، والذين يقيمون سياساتهم النفعية على مبادئ الأمير الإيطالي ميكافللي الذي يقول بالغاية تبرر الوسيلة، أي أن الفوز بالانتخابات يبرر تقويض المبادئ الفرنسية والبناء على ركامها المصالح الجهوية الضيقة.
لذلك فإن الجمعية الوطنية التي يفتخر بها الفرنسيون مثلت دائماً بالنسبة إلى الفرنسيين الضامن الرسمي لمبادئ الثورة الفرنسية، حيث انسجمت توجهاتها مع أفكار روسو، باتخاذها قرارٍ تاريخيٍّ في السادس والعشرين من أغسطس من عام1789، بنشر "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، وهو أساس الانتقال من نظام الحكم الملكي المطلق إلى النظام الملكي الدستوري، وينص هذا الإعلان الذي صاغه الماركيز "دي لافاييت" على الحق في الحرية وحق الملكية والأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد والمساواة بين الرجال.
هذه هي فرنسا التي مثلت ذات يوم أحلام المهاجرين التواقين إلى الحرية، هرباً من بطش أنظمتهم. وهذا لا يمنع من التذكير أن معظمهم لجأ إلى أوروبا وخاصة فرنسا بفعل الاستعمار الفرنسي الذي خالف مبادئ الثورة الفرنسية، في حقبة احتلاله لشمال أفريقيا وتهجير النخب والأحرار والمتعبين من بلادهم، وهم اليوم يشكلون المكون الإسلامي للمجتمع الفرنسي الذي تتهدده العنصرية والإرهاب بكل أشكاله وأطيافه. 
من هنا أدعو المعنيين في الشؤون الثقافية الفرنسية في إطار الدعوة للتسامح إلى تحويل أفكار جان جوك روسو إلى ثقافة فرنسية حقيقية وراسخة، والمبادرة إلى تحويل جرائم الإبادة الفرنسية إلى ثقافة رفض، وليست تفاخر وتعالي، واعتزاز بالقوة المفرغة من المحتوى في زمن اختلفت فيه المعايير، والتعبر عنها ثقافياً من خلال رصف الجماجم في المتاحف للتذكير بجبروت فرنسا، وهذا يشكل مرتب نقص على مستوى الاستراتيجية الثقافية، التي لا بد من إعادة النظر فيها شكلاً ومضموناً، واتخاذ قرار هدم لمبنى "متحف الإنسان" الكائن في ساحة تروكاديرو في قلب العاصمة الفرنسية باريس، حيث يضم في قاعات العرض، ثمانية عشر ألف جمجمة لشهداء جزائريين قتلوا خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، وتكوموا تحت لافتات تحمل أرقاماً تمثل هويتهم الوحيدة، لتكون جماجمهم شواهد على جرائم ارتكبتها الدولة الفرنسية في مستعمراتها طيلة عقود، في تناقض كبير مع مبادئ الثورة التي بنيت عليها هذه الدولة وتعتبر فخراً للفرنسيين.
وتجدر الإشارة إلى كيفية تعامل فرنسا مع السكان الأصليين لمستعمراتها والقائمة على استعلاء كبير، وكانت تراهم بصورة الهمج العبيد، ضاربة الحائط بكل فلسفة الأنوار ومبادئ الثورة التي قامت على الحرية والمساواة كما ذكر عرّابها "جان جاك روسو"، وهذا يعيدنا إلى صلف السياسة الفرنسية اليوم إزاء المسلمين الفرنسيين.
وعليه لا بد من وقف السياسة الإعلامية والخطاب السياسي القائم على التحريض ونبذ الأقليات الدينية والإثنية وعدم احترام المشاعر الدينية مثل الرسوم المسيئة للرسول التي أثارت حفيظة العالم الإسلامي.. ومن باب التذكير بأن المشاعر الدينية لا يجب مسها تحت أي عنوان فكري أو سياسي، فقد حدث الشيء نفسه مع العالم المسيحي حيث احتج المسيحيون وثاروا إزاء ما اعتبروه إهانة للمسيح، وخاصة في فرنسا ذات المذهب الكاثوليكي، على عرض فلم "الإغواء الأول للمسيح" حيث وقّع ما يقرب من مليوني شخص حول العالم عريضة تطالب شبكة نتفليكس بسحب الفيلم الذي أغضب الملايين حول العالم، وتسبب في خسارة نتفليكس؛ لأن متابعين رافضين لعرض الفيلم ألغوا اشتراكاتهم في الشبكة، وهو شبيه بالمقاطعة للبضائع الفرنسية التي عمت العالم الإسلامي من باب الضغط على القيادة الفرنسية؛ لمنع إعادة نشر الرسوم التي تسيء لشخصية مقدسة عند المسلمين تتمثل بالرسول الكريم، ومن أجل استخلاص قانون يحمي وجودهم من الإرهاب بكل أشكاله وأطيافه.. وإيقاف أي إجراء من شأنه أن يشجع اليمين الفرنسي بالاستقواء على المكون الفرنسي الإسلامي، مثلما جرى قبل يومين، حينما تم تعميم رقم هاتف "طوارئ أمني أخضر"، يكون بوسع كل فرنسي لمجرد أنه يشك بوجود إرهابي أو "مسلم" التبليغ عنه.. وهذا يعني أن كل من يمتلك اسماً عربياً او يرتدي الزي الإسلامي معرض للاعتقال.
وهي قمة العنصرية لأنها تؤدي إلى سياسة الفصل العنصري، ويفتح شهية اليمين الفرنسي على الانتقام.. ويضع عشرة ملايين مسلم قيد المراقبة وكأنهم في سجن كبير.. وهنا يتحمل الرئيس الفرنسي ماكارون النتائج؛ لأن ١٠٪؜ من الشعب لا يحشر في قارورة.. وهو إجراء يخالف مبادئ الجمعية الوطنية الفرنسية ويطعن فيلسوفها جان جاك روسو في الظهر. ويشعل فتيل العنصرية في عموم القارة العجوز.
وأخيراً، وفي سياقات متصلة مع بعضها، ومن باب الاجتهاد في ربط الأحداث بأسبابها المحتملة، وللتذكير بخطورة أن تَصْدُرَ التصريحات المحرضة على المسلمين ولو بالإيحاء، من قمة الهرم القيادي في فرنسا الحرية والعدالة؛ فإن البعض يميل إلى أن الهجوم الإرهابي الذي حدث يوم أمس في العاصمة النمساوية "فينا" بجوار كنيس يهودي مغلق، والذي نجم عنه حتى الآن سبعة قتلى، ما هو إلا ارتداداً موضوعياً لتصريحات ماكارون ضد الإسلام، بغض النظر عن هوية المتسبب الطائفة أو الجهوية، سواء كان مسلماً إرهابياً مجرماً، احتجاجاً على ما يثير مشاعره الدينية في فرنسا، أو يمينياً عنصرياً قاتلاً، يسعى إلى تطهير أوروبا من المسلمين أو الملونين خلافاً لمبادئ الثورة الفرنسية، أو ربما جهات أمنية؛ تسعى لحرف الأنظار عن أزمة فرنسا العنصرية وتفاعلاتها عالمياً! من هنا يجب أن توضع النقاط على الحروف والبحث في الأسباب لاجتثاث الإرهاب الذي لا هوية له أو دين، من جذوره .. فمن يسن قانواناً لصالح السامية، بوسعه القيام بنفس الشيء لحماية مسلمي أوروبا والأقليات العرقية الملونة.. 
الوضع في أوروبا يتأزم وبداية الحريق نشب في هشيم السياسة الفرنسية العقيمة التي نتمنى أن تتغير في الاتجاه الصحيح ووفق معايير العدالة التي دعا إليها مفكر الثورة الفرنسية روسو.. ومعالجة الأزمة من جذورها وليس شكلياً في إطار المناورات السياسية.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد