مع الاعداد الكبيرة من الخريجين فقد أصبح الامتداد الافقي في التعليم العالي في كثير من التخصصات له محاذير كبيرة جدا، وخصوصا في مجال التوسع في فتح جامعات طبية جديدة بحجة الاستثمار، في الوقت الذي يوجد في المملكة ست جامعات حكومية تدرس الطب، اضافة الى كلية طب سابعة في جامعة آل البيت التي وافق مجلس الامناء على السير بإجراءات انشائها. ان عدد الخريجين من هذه الجامعات يتجاوز 2000 طبيب سنويا، اضافة الى وجود ما يزيد 11000 طالب على مقاعد الدراسة في هذه الجامعات، عدا عن الطلبة الذين يدرسون خارج المملكة حيث يوجد على مقاعد الدراسة ما يزيد عن 7000 طبيبا. ولنعترف هنا، ان شبح البطالة في مهنة الطب بدأ يلوح في الأفق وهناك الاف الطلبات في ديوان الخدمة المدنية وفي القطاع الخاص ينتظر مقدموها من الاطباء الفرج لإيجاد فرصة عمل تحفظ كرامتهم بعد ان كلف ذلك الأهل مبالغ كبيرة لتدريس ابنائهم في داخل المملكة وخارجها.
نعم، انها ارقام مرعبة ويجب التوقف عندها حيث تفوق ما يقارب ثلاثة اضعاف طاقة سوق العمل الاستيعابية لمهنة الطب، وأن تكون معيارا أساسيا لدى صاحب القرار في عدم التسرع في انشاء جامعات طبية خاصة بداعي الاستثمار الذي سيزيد من تفاقم مشكلة الأطباء من جهة، وينعكس سلبا على مخرجات التعليم الطبي من جهة ثانية في الوقت الذي تعاني منه كليات الطب في الجامعات الحكومية من نقص حاد في الكوادر التدريسية في كثير من تخصصات الطب الدقيقة المتعددة ونقص في الكوادر الفنية.
ان التعليم الطبي يختلف عن أي تعليم آخر فهو يتعلق بحياة الانسان، ومن هنا فان التركيز على التعليم والتدريب النوعي واستيعاب الاطباء ما امكن في هذا المجال حيث أن عدد اجمالي الفرص التدريبية في المستشفيات التعليمية الاردنية المتاحة للحصول على الاختصاص يصل الى 900 فرصة في القطاعين العام والخاص، ونتساءل هنا ماذا عن معظم الخريجين من الاطباء الذين لا يجدون فرصا للتدريب في ظل قلة فرص التدريب الخارجية ومحدودية التدريب محليا؟ أليس واقع الحال هذا يضع هؤلاء الاطباء على قائمة المعاناة والبطالة لإيجاد فرص العمل تحقق طموحهم ومستقبلهم المهني.
ثم لماذا البحث عن شراكة مع جامعات خارجية التي ستقتسم الكعكة كما يقال وتأخذ نصيبها من هذا الاستثمار؟ وأقترح هنا أليس من الأجدى يا دولة الرئيس وأنت المتخصص في الاقتصاد أن تكون الشراكة الحقيقية بين الخدمات الطبية الملكية وكليات الطب في الجامعات الحكومية التي تشتمل على بنية تحتية جاهزة لتدريس وتأهيل الاطباء في مستشفياتها، إضافة إلى توفر الكوادر الأكاديمية والفنية المؤهلة في كافة الاختصاصات الطبية دون أن يكون هناك كلف إضافية وأقترح أن تحمل هذه الجامعة اسم "جامعة الملك عبد الله الثاني بن الحسين الطبية العالمية"
King Abdullah II Bin Al-Hussein International Medical University
لأن اقامة صرح طبي جامعي على المستويين المحلي والاقليمي يكون مؤهلا لاستقطاب طلبة من داخل المملكة وخارجها في ظل توافر مستشفيات الخدمات الطبية الملكية والجامعات الحكومية سيعطبها زخما قويا ونوعيا، ونكون مطمئنين هنا على نوعية المخرجات الطبية التي تشرف عليها كوادر أكاديمية وطبية من ذوي الخبرة والسمعة العلمية والطبية المتميزة، وهتا يكون الاستثمار حقيقيا على الصعيدين النوعي والمادي.
نأمل يا دولة الرئيس... معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، أن يتم دراسة موضوع انشاء جامعات طبية جديدة من قبل أصحاب الاختصاص في المجال ومراجعته من مختلف جوانبه ووضع دراسات اكتوارية ودراسات فنية شاملة تدرس حاجة السوق يشارك فيها مختصون ونقابيون واكاديميون من الاطباء، لأن دراسة الطب ليست تجارة وتحقيق ربح مادي فقط، لأنها تهتم بصحة الانسان وسمعة المنظومة الطبية في بلدنا التي يجب ان تكون مدخلاتها متميزة وعالية المستوى.
ونأمل أيضا دولة الرئيس ...معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، أن لا تتكرر التجربة، كما حصل لكثير من التخصصات المشبعة التي فتحت دونما تخطيط او دراسة لاحتياجات سوق العمل، فلا يعقل على سبيل المثال ان يكون في المملكة احدى وعشرون كلية صيدلة التي يتخرج منها سنويا ما يزيد على 2500 خريج عدا عن الطلبة الذين ما زالوا على مقاعد الدراسة الذين يتجاوز عددهم 16000 طالب ، اضافة الى المنتسبين للمهنة الذي تجاوز عددهم 24000 صيدلي وصيدلانية حيث اصبح خريجو مهنة الصيدلة يعانون من بطالة واسعة وصلت الى مرحلة فوق الاشباع وخصوصا الخريجات في محافظات خارج العاصمة حيث نجاوز عدد الباحثات من الاناث عن العمل 3500 صيدلانية.
واذا كان الحديث عن الاستثمار هو الهاجس، فلماذا لا يتم توجيه ذلك نحو حاجات ومتطلبات التنمية في بلدنا والتركيز على التعليم التقني والمهني الذي سينهض في مسارات التنمية والنهضة ...هذا التعليم الذي تم نسيانه وتغييبه منذ فترة طويلة بسبب الاستراتيجيات العشوائية وسوء التخطيط في ادارة ملف التعليم الذي ركز على الدراسات النظرية دون المهن، وبالغ في فتح تراخيص لجامعات دون ضوابط واقعية، فحدث اختلال في التوازن وزادت البطالة وتراكمت الشهادات الجامعية عند ابنائنا ولم يجدوا فرص عمل وانعكس ذلك سلبا على الاستثمار في الوقت الذي نجد فيه طاقات الشباب معطلة.
عزيزي دولة الرئيس... عزيزي معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي...انني أرى في هذا القرار كما يرى الكثيرون من الاكاديميين استعجالا، ولا يخدم مستقبل مهنة الطب في بلدنا وسينعكس سلبا على مخرجاتها وسيضخ بأفواج جديدة الى طابور البطالة التي ساهمنا في تزايدها بسبب غياب الاستراتيجيات الوازنة والقرارات الارتجالية التي غالبا ما كانت قرارات شخصية مستعجلة من مسؤول هنا أو آخر هناك...فهل نعيد الموضوع الى ما كان عليه حيث ان مجلس التعليم العالي السابق أوقف هذا الملف بعد دراسة مستفيضة من مختلف ابعادها في ظل الارقام التي أشرت اليها، ولنتذكر ما جاء في الورقة النقاشية السابعة لجلالة الملك ان التعليم النوعي هو محور النهضة، وان الاستثمار الحقيقي لا يكون أحادي الجانب وماديا فقط، وإنمّا في بناء الانسان وتأهيله على قاعدة صلبة قوية في كل المجالات التي تراعي حاجة بلدنا وأولوياته.
والله من وراء القصد.
* كاتب واستاذ جامعي/ جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية
* عميد كلية الصيدلة في جامعتي اليرموك والعلوم والتكنولوجيا الاردنية.
* رئيس جمعية أعضاء هيئة التدريس سابقا.