لغتنا العربية ليست بحاجة الى يوم للاحتفاء بها شكليا، في الوقت الذي تشهد فيه لغتنا تراجعا كبيرا وهجرة وعقوق ابنائها لها، لأن عظمة لغة الضاد هذا الوعاء الثقافي الزاخر يحتم علينا ان تكون لغة البلاغة والبيان حالة مستمرة نعيشها في بيوتنا وشوارعنا ومدارسنا وجامعاتنا وفي المؤتمرات والمنتديات الفكرية والثقافية. ولكن واقع الحال للأسف هو غير ذلك حيث ان ابناءها رموها بعقم، فأصبحت لغتهم ضعيفة والسنتهم معوّجة فلا قراءة سليمة للنصوص، ولا مراعاة لقواعد اللغة، ولا حياء من ارتكاب الأخطاء اللغوية حتى في مؤسساتنا التربوية والتعليمية وفي المؤتمرات والمنتديات الثقافية من خلال المراسلات والكتب الرسمية، كما أن المتابع لمعظم قنوات الاعلام ونشرات الأخبار يشعر بالأسى والخجل معا لما يرتكب من أخطاء في حق لغتنا العظيمة.
الاحتفاء بيوم اللغة العربية، يذكرنا في مواقف كثيرة محزنة ومبكية لركاكة التعبير الذي يمارس والأخطاء الإملائية والنصّية والقواعد التي ترتكب في حق لغة الضاد، ومنها الذي يقدّم عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ومن قبل متعلمين يحملون شهادات جامعية وشهادات عليا جعلت من لغتنا الرصينة القوية لغة مسخا مائعة مليئة بالأخطاء لا لون لها ولا طمع ولا رائحة.
ألم يحن الوقت لتنقية لغتنا من الشوائب التي أخذت تغزو حروفها ونطقها ومنطقها وعمقها وبحرها الزاخر الذي يرفض كل تلوث يسهم في وهنها واضعافها. نعم، لغتنا تدعونا جميعا لنشرب من معينها ماء عذبا فراتا غير آسن، ونستنشق من سمائها هواء نقيّا صافيا ليبقى جسد هذه اللغة سليما معافى من كل مرض أو أذى عن قصد أو جهل وليبقى قلبها نابضا بشرايين سدنتها وحراسها من القابضين على سبر أغوار بحرها العميق ليبقى زاخرا بالمعرفة والعلم ونشرها للإنسانية جمعاء.
ان مجمع اللغة العربية رغم الجهد الذي يبذل لا يقدر وحده على تنقية اللغة العربية من الشوائب التي دخلت عليها وأصبحنا نمارسها جهارا نهارا دون حسيب او رقيب...ومن هذه الشوائب بعض اسماء المطاعم والمحلات التجارية والمقاهي وغيرها التي تسيء الى لغتنا وتغرس ثقافة التفاهة لدى النشء، ناهيك عن العبارات غير اللائقة التي تكتب على الواجهات الخلفية لبعض الشاحنات وحافلات النقل الخصوصي منها والعمومي التي تخدش الحياء وتسيء الى لغتنا، وأتساءل هنا كما يتساءل غيري على عاتق من تقع مسؤولية هذا العبث والاستهتار؟ أليس من الحكمة ان يوقف هذا الاستهتار بحق لغتنا وازالته فورا؟ اليس من حق لغتنا علينا ان تكون لجنة مؤهلة فكرا وثقافة ولديها معرفة عميقة في اللغة تمتلك المرجعية والصلاحيات في رفض هذه الاسماء الغريبة واعادة مسمياتها من جديد تنبثق هذه اللجنة المختصة عن وزارة الثقافة او مجمع اللغة العربية تجيز اعتماد هذه المسميات قبل ان تأخذ ترخيص الجهة التابعة لها، لأنه من صلب عمل وزارة الثقافة التنسيق مع كافة المؤسسات حماية للغة من أي وهن واتخاذ الاجراءات الوقائية والعملية لنكرّس ثقافة الوعي بدلا من ثقافة العبث، وكذلك دور مدارسنا وجامعاتنا المؤثر لنعيد للغتنا ألقها والمكانة التي تستحق.
لقد سبق ان كتبت مقالتين حول مبادرة سمو ولي العهد الأمين للاهتمام بلغة الضاد حيث كانت مبادرة سموه دعوة لكافة المؤسسات والافراد لتأخذ دورها الفاعل والايجابي تجاه لغة الضاد ومنها اقتبس "ما أجمل وهج الخطاب في كلمات سمو ولي العهد الأمير الشاب المتحمس لحماية لغتنا العربية واعادة الهيبة والمكانة التي تستحق، فتحدث بلغة العارف والمستنير بروعة البيان وسحر الكلام وعذوبة الكلمات التي تنم عن اطلاع واسع وأدب عال في الحوار وعمق في التفكير، لتكون هذه اللغة السليمة نهجا نمارسه في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وهي رسالة من صاحب السمو الملكي تخاطب العقول وتوجّه الأجيال ليدركوا أن من حق لغتنا علينا أن نتقنها لفظا وغاية ونهجا بأسلوب يليق بمكانتها العالية. نعم، ان نبع مفردات الضاد لا ينضب ولا يجف لها مداد ولم ولن تهن ما دام هناك سدنة يحمون كينونتها ممارسة صحيحة وتطبيقا راقيا يعكس فكر أميرنا الشاب المحبوب وثقافته واحترامه للغة كتاب الله تعالى".
فهل نبدأ بتنقية لغتنا من الشوائب التي تغزو الشوارع والمحلات والمركبات، ولتفعّل وزارة التربية والتعليم رقابتها الميدانية على التعليم الخاص والحكومي بمراجعة طريقة تدريس اللغة العربية من قبل مدرسين قادرين ومؤهلين ضمن خطة مدروسة، وخصوصا في المرحلة الأساسية قراءة وكتابة وتعبيرا بأسلوب متميز، لأن من يمتلك ناصية اللغة هو القادر على غرس المفهوم التعليمي والثقافي والفكري بشمولية أوقع تأثيرا لدى المتلقين والدارسين بدرجة أكثر عمقا بعيدا عن ركاكة المفهوم وسطحية التفكير وضعف المحتوى الأمر الذي يؤسس لثقافة اصيلة وفكر مستنير لدى الأجيال تكون كفيلة بإعادة الوجه المشرق للغة الضاد.
وأذكر هنا، أن كثيرا من دول العالم ومنها فرنسا أعادت تنقية لغتها من كل الشوائب التي دخلت عليها من لغات ولكنات غريبة حيث أسندت أمر تدريس اللغة الفرنسية إلى أساتذة مؤهلين من أبناء فرنسا الأصليين الذين تشربّوا اللغة الأم ولم يسمح لأحد غيرهم أن يقوم بتدريسها، وجاء هذا القرار بعد هزيمتها أمام بريطانيا في حرب السنوات السبع حيث اعتبرت سبب الهزيمة ثقافيا وليس عسكريا، فأهتمت بلغتها ونقتها من كل الشوائب وراجعت مناهج الدراسة وصححّت المسار التعليمي في مدارسها فنهضت فرنسا من جديد تعتز بلغتها وهويتها الوطنية التي تشكل اللغة الفرنسية عنوانا لهذه الهوية.
نامل أن يكون الاحتفاء الحقيقي بلغتنا، وقد عدنا إلى ثقافتنا الأصيلة التي بدأت بكلمة أقرأ بكل ما تحمله من مضمون شمولي، وتحترم الكلمة الرصينة البليغة، لأن اللغة الراقية السامية هي التي تسمو بنا نحو النهضة والتقدم، وهي وعاء الفكر الحقيقي والعلم النافع والثقافة الشاملة المستنيرة ترفض العبثية والميوعة والاستهتار، كما ترفض كل ما هو دخيل يحاول النيل من عظمة وشموخ لغة الضاد.
* كاتب واستاذ جامعي/ جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية
عميد كلية الصيدلة سابقا في جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية وجامعة اليرموك
رئيس جمعية أعضاء هيئة التدريس سابقا.