لقد قرأت رسالة لباحثة جاء فيها بعض أقوال من نعى على أهل عصره تفشي العامية واللحن والألفاظ النابية والساقطة ؛ منهم الأديب الأندلسي ابن شهيد والأبشيهي ، ثم عقبت الباحثة بقولها :
( وهذا الأمر ينم عن عصبية وتزمت للأدب العربي ... ولكن المتأمل في الموروث الشعري العربي يجد من الإسفاف والألفاظ النابية والعامية مالا حصر له ؛ ويكفي الإطلاع على هجائيات جرير في ديوانه ) .
فإن لفظة ( تزمت ) لها في المعجم معنى صحيح وهو ( الحليم الساكن ) ، ويأتي في بعض المعاجم الحديثة ( التشدد ) ؛ ولكن الذي ترسخ في أذهان المثقفين - ومنهم هذه الباحثة - أن لفظة ( تزمت ) تنبئ عن قبيح من المعنى ، وفيه شيء من التشنج ... ونستبعد المعنى المعجمي من ذهن الباحثة ؛ لأن سياق ولحاق الكلام يؤيد قولنا .
فإن اختيار الألفاظ الحسنة في موطن غيرة الأفذاذ على تراثهم هو الأولى والأجدر خاصة إن كانت الباحثة ممن يروج إلى شيوع الملاطفة والملاينة عند البحث والرد !
وأيضا استعملت الباحثة ألفاظا فضفاضة لا تليق في بحث علمي يرجى أن يطلع عليه ثلة من أهل الإختصاص ؛ فقالت :
( مالا حصر له ، ويكفي الإطلاع على هجائيات جرير في ديوانه ... )
فإن إحالتنا من قبل الباحثة على هجائيات جرير في رصد هذا الكم الهائل الذي لا حصر له من الألفاظ النابية والاسفاف ... كلام فيه هظم وجور ؛ فإننا لا ننكر ألفاظا نابية في هجائيات جرير لدواعي العصبية بينه وبين خصومه الكثيرين ، ولكن ليس بهذا التهويل الذي رسمته الباحثة ، فألفاظ جرير في هذا الباب تكاد تكون معدودة ؛ وهي في الغالب مكررة ومعادة .
وابن شهيد والأبشيهي لما نعيا على أهل زمانهما لم يكونا في معزل عن الاطلاع على موروثنا الأدبي ، وعلى هجائيات جرير و الفرزدق والراعي ... الخ ، فنعيهما صحيح ليس فيه ( تزمت ) ولا ( عصبية ) بل غيرة محمودة .
والعامية تكاد لا تذكر في موروثنا القديم ، فإن النقدة كانوا لها بالمناقيش .
فقد تجافلوا عن فن الموشح في أول ظهوره لأسباب منها : خروجه عن أعاريض الشعر العربي ولاحتوائه على ألفاظ ملحونة وعامية ، وما ذاك إلا غيرة على الفصحى والحفاظ عليها .
وقد زبرت الباحثة ألفاظا وعبارات ركية كنا نرجو أن تتعالى عنها في بحثها ؛ منها :
1 - ( ... كمصطفى الشكعة ... كمحمد عبدالمنعم خفاجي ) !
فإن استعمال ( كاف التشبيه ) هنا خطأ ؛ وهذا لا يخفى على من مارس العربية وعرفها .
2 - ( لاعتماده في نظمه على ألفاظ سوقية ماجنة تعافها الأنفس ، وتنبو عنها الأسماع ) !
فالعرب الفصحاء تستعمل الفعل ( تنبو ) مع السيف والبصر والمكان والفراش ، أما السمع فيستعملون معه الفعل ( تمجه ) الأسماع .
ثم تكلمت الباحثة عن نشأة الموشحات ، ونقلت أقوال بعض من ذهب إلى مشرقية الموشح مثل ؛ مصطفى الشكعة الذي ذهب إلى دمشقيته ، ومحمد عبدالمنعم خفاجي الذي ذهب إلى حجازيته في جزيرة العرب ...
ثم قالت : ( ونحن ننادي بأردنيته ؛ بناء على ما جاء في كتاب " أغانينا الشعبية في الأردن " ) !
وذكرت أدلتها على ما ذهبت إليه ، ومن هذه الأدلة :
1 - غناء ( الهجيني ) الذي هو من خاصة البدو .
2 - الموال الذي هو من خاصة أهل الحضر والقرى .
3 - وأشياء أخرى على غرار ما ذكر .
فنقول لهذه الباحثة : الهجيني هو زاد كل بدوي في كل أقطار المشرق العربي ولا يختص بمنطقة دون منطقة ؛ فهو في الجزيرة العربية وبوادي الشام و صحراء سيناء ... الخ .
فلا يجوز أن يكون دليلا تتكئين عليه لإثبات ما توهمتيه !
أما ( الموال ) فأسيادة وأساطينه شمال فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ... الخ ، فهو ليس حكرا على شمال الأردن بل شمال الأردن تبع لمن ذكرت .
فيتبين لنا من هذا المرور السريع على أدلة الباحثة ، أنها أدلة واهية ومنافية للنزاهية العلمية التي يجب أن تكون مبنية على البراهين والأدلة الصحيحة .
وكما قال الأول :
أوردها سعد ؛ وسعد مشتمل
...... ما هكذا يا سعد تورد الإبل .