يصعب التكهن بما ستنتهي إليه هذه الجولة من التصعيد بين سلطة حماس في غزة وسلطة محمود عباس في رام الله. فما شاهدناه في الأسابيع الأخيرة، كان سياقا مشحونا بالعديد من أسباب التوتر، بين هاتين السلطتين، وقد بدا ذلك بإعلان رئيس السلطة محمود عباس عن حل المجلس التشريعي، ما أثار جدلا حادا وسجالات قانونية، لجأ فيها كل طرف إلى دحض ذرائع الآخر وإلى الدفع بلا قانونية حضوره السياسي كله. وفي أجواء ذلك التصعيد، حلّ موعد التحضير لإحياء ذكرى انطلاقة حركة فتح في غزة، وهذه مناسبة منعت حماس إحياءها لسنوات عديدة، وعندما تراجعت في بعض السنوات عن المنع، اتخذتها قيادة السلطة في رام الله مناسبة لقياس حرارة التأييد للرئيس عباس وحركة فتح الموالية له، والبرهنة على أن شعبية حماس في غزة قد انحسرت.
سمحت حماس بإقامة مهرجان فتح، للمرة الأولى، بعد خمس سنوات من الانقسام ومن حكمها لغزة. وفي تلك السنة خرج أكثر من نصف القطاع للمشاركة في إحياء الذكرى، لتتشكل مليونية حقيقية (4 يناير 2013) وقيل إن تلك المليونية تحققت بهذا الحجم ردا على حكم حماس أو نكاية فيه. وكانت فتح في ذلك الوقت موحدة، أي لم يكن المنتسبون لفتح في غزة، قد تلقوا قرارات الإقصاء وقطع الرواتب وشتى أنواع التضييق.
في هذه السنة 2019 وعلى الرغم من تحول الرأي العام الفلسطيني في غزة، بكل أطيافه، إلى الموقف النقدي المرير، لسلوك قيادة السلطة حيال غزة، إلا أن الفريق المتنفذ في رام الله أراد الاستفادة من وجود بقايا موظفين تابعين لحركة فتح، يتلقون رواتبهم، وأصر على إقامة مهرجان في غزة، لا يتاح لها ربع حجمه في الضفة، وتُرفع فيه صور عباس، بهدف أن تغطي صورة الحشد على مظلومية غزة، وعلى ردود الأفعال القوية والمنطقية التي تلقاها عباس عندما أعلن عن حل المجلس التشريعي وأعلن عن الذهاب إلى انتخابات عامة، لم يقتنع أحد بأنه سيذهب إليها.
وبالطبع، لم يكن مناخ العلاقة بين عباس وحماس، يحتمل أن تلبي الأخيرة للأول رغبته، وساعد على ذلك أن ممثلي عباس في غزة لم يتقدموا بطلب الترخيص لمهرجانهم. وكان لافتا أن المتنفذين من بطانة عباس، في رام الله ظلوا يضغطون على منتسبي فتح في غزة، ممن يتلقون رواتبهم، لكي يصطحبوا أسرهم إلى المهرجان المبتغى، واشتغلوا على استثارة حماستهم، ما جعل الكثيرين على قناعة بأن مجموعة رام الله تريد صداما بين حماس والجمهور الفتحاوي. وهناك من يعلل هذا التوجه بأن سلطة الرئيس محمود عباس أرادت جر حماس إلى العنف حتى وإن سقط ضحايا، لكي تكون الخطوة التالية الإعلان عن غزة إقليما متمردا، ومن ثم يسهل فصله واستئصاله بعد حل المجلس التشريعي. وليس أدل على هذه النوايا، من التعبيرات التي خرجت بلسان أفراد المجموعة العاملة مع عباس نفسها، بعد الإعلان عن إلغاء المهرجان في اللحظات الأخيرة. فقد قال هؤلاء إن الإلغاء كان لحقن الدماء، بمعنى أن ما كان في ذهنهم هو جريان الدم.
ويبدو أن أطرافا خارجية، أو ناصحين من داخل فتح نفسها، نصحت بالإقلاع عن هذه المغامرة لأن من يعلن عن شطب آخر مؤسسة بقيت للسلطة، وهي المجلس التشريعي، لكي ينفذ عملية إقصاء لغزة ولحماس، سيكون قد تأبط شرا عندما يدفع الناس مرغمة بحكم حرصها على رزق أطفالها، إلى الخروج إلى الشارع لرفع صورته ولمواجهة قوة مسلحة عُرفت هي الأخرى بغلاظتها مع الناس وباعتمادها القبضة الأمنية، وقد بدأت بها فعلا، وأظهرت أنها ستبتلع الطُعم بسهولة.
بخلاف ذلك، كان سجال المهرجانات ومنافساتها، حاضرا في الوقت نفسه وإن كان على صعيد آخر. فقد تقدم الفتحاويون من منتسبي التيار الإصلاحي الديمقراطي في حركة فتح، بطلب ترخيص لحفل إيقاد الشعلة، إحياء لذكرى انطلاقة حركتهم. وهؤلاء كانوا سيفعلون ذلك، لو لم تكن مناخات عباس وحماس ملبّدة، لأنهم وبحكم تعرضهم للإقصاء أو لقرارات طرد غير قانونية من حركتهم، كانوا وسيظلون معنيين بتظهير حجمهم باعتبارهم تيارا عريضا، يمثل بأطروحاته تمنيات الغالبية العظمى من الفتحاويين سواء كانوا صامتين يحافظون على رزق أبنائهم أو صارخين يعارضون عباس على مدار الساعة.
فلا يختلف اثنان في فلسطين على أن خطاب عباس ومفرداته السياسية ومنهجيته الاجتماعية والأمنية، غير مقبولة لا على الصعيد الشعبي ولا على صعيد أغلب الحاشية نفسها. لذا كان من الطبيعي، أن يكون احتشاد إحياء الذكرى بإيقاد الشعلة، بأيدي التيار الإصلاحي مستفزا لعباس، الذي يصر على أن هذا التيار هو جماعة صغيرة أو زمرة معزولة.
وقد شاهد الفلسطينيون على شاشات التلفزيون، الطريقة التي عبر بها الرجل عن غضبه، عندما خرج عن كل تقاليد الهجاء والتهاجي، وتحدث بحنق شديد يعكس أزمته واصفا حماس والتيار الإصلاحي في حركة فتح بــ“الجواسيس”، ما جعله يستمطر على نفسه زخات من التذكير بما يردد هو نفسه عن نفسه، في كل يوم، وبما نعته به الزعيم الراحل ياسر عرفات.
منذ أن أوقع الرجل الانقسام في حركة فتح، وظل يعاند ويرفض المصالحتين الوطنية والفتحاوية، وقع تحت ضغوط نفسية هائلة كان بمقدوره أن يتحاشاها بالحكمة. ومن المفارقات تشدده وتمسكه بالخطأ ورفضه نصائح الناصحين، وساعد على نمو تيار الإصلاح وعلى اشتداد عود حماس واتساع علاقاتها. فليس أفضل لحماس لكي ترمم التصدعات التي تقع في مكانتها الأدبية بجريرة مساوئ سلوكها في الحكم، من خطاب لعباس يتجاهل فيه حقائق السيكولوجيا الجمعية للفلسطينيين وعاطفتهم الوطنية وآلامهم الاجتماعية، وحساسية مشاعر ذوي الشهداء، واعتزاز الناس بالمقاومة.
فالرجل من خارج الوحدة الفلسطينية وينطق بكل ما يجرحها، ثم يحاول تمرير كل ما يقول، بترديد عبارات بلا معنى مثل إن القدس ليست للبيع أو إنه يقول لا لأميركا. كأن القدس في يديه، أو أن الاحتلال وأميركا ينتظران منه الإذن لكي يستكملا سياساتهما على الأرض، أو كأنه أبقى في يديه شيئا للبيع والشراء، وأنه يمارس ضغوطا على الأرض أو يؤمّن لنفسه نهوضا شعبيا يجعل الآخرين يحسبون له حسابا.
الآن، وصل التصعيد إلى ذروته، والحال الفلسطينية تتردى، ويتفاقم بؤس غزة، والضفة الفلسطينية في حال انتظار في مناخ من الهواء الناقص وتحت قبضتين أمنيتين، والكيانية الفلسطينية تنهار والقضية تفتش عن عصبية وطنية تحملها من جديد، بينما الفتق يتسع على الراتق.