بذلت مصر كل ما يمكن عمله، اقتصادية وسياسيا وقضائيا، لطي صفحة مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني منذ ثلاثة أعوام في القاهرة، ولم تفلح في تسوية أزمة تحاول بعض الجهات الإيطالية والمعارضة المصرية الاستفادة من ملامحها الإنسانية.
عادت القضية – الأزمة إلى الضوء، الخميس، بعدما أعلن روبيرتو فيكو، رئيس البرلمان الإيطالي تجميد العلاقات الدبلوماسية مع البرلمان المصري، “حتى إكمال التحقيق النهائي في قضية ريجيني ومعاقبة المذنبين”، وهو الذي أكد في 16 سبتمبر الماضي، “رضاه بمستوى التعاون بين القاهرة وروما لحل هذه القضية”، ما يشير إلى أن هناك متغيّرات طرأت عليها، يمكن أن تؤثر على مسيرة التعاون في مجالات مختلفة بين القاهرة وروما.
عبّر مجلس النواب المصري عن أسفه (الجمعة)، مما وصفه بـ”استباق مجلس النواب الإيطالي الأحداث، ومحاولة القفز على نتائج التحقيقات”، ولم تصدر تصريحات من القيادة السياسية ترد بها على الموقف الإيطالي، حتى منتصف اليوم السبت.
أخذت القضية منحى دبلوماسيا عندما استدعت الخارجية الإيطالية (الجمعة) السفير المصري في روما هشام بدر، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن مقتل ريجيني، لافتة إلى وجود حالة من “عدم الارتياح الشديد في ما يتعلق بتطور القضية”.
كان هذا التوجه الحاد مألوفا عندما تم الكشف عن حادث مقتل ريجيني، وسحب السفير الإيطالي من القاهرة، لكن لأول مرة يتم الكلام بهذه النبرة السلبية بعد تراجع القضية سياسيا، بل والحديث عن وجود شخصيات بعينها، شرطية واستخباراتية، متورطة فيها.
وأشارت وكالة الأنباء الإيطالية الرسمية (أنسا) إلى وجود أسماء مصرية معروفة لدى روما، ستتم المطالبة باستجوابها خلال الأيام المقبلة في الواقعة، بعد يومين من زيارة فريق تحقيقات إيطالي القاهرة، في إطار التعاون القضائي بين البلدين.
سعت السلطات المصرية إلى التعاون مع إيطاليا في الجوانب القضائية، وبذلت جهودا مضنية لتبديد الهواجس التي أثارتها القضية من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية، حاولت استثمارها لإحراج القاهرة، لكنها لم تتصور أنها سوف تظل سيفا مسلطا على رقبتها كل هذا الوقت.
استفاد المحرضون على تسخين ملف ريجيني من تداعيات مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول منذ شهرين، بعد تيقنهم من أن هذه القضايا تحظى بمتابعة دولية، تختلط فيها الملامح السياسية بالإنسانية، ولها تأثيرات كبيرة على تحريك الرأي العام.
عمل هؤلاء المحرضون على توفير دفقة جديدة لإعادة القضية إلى الصدارة، بعدما كادت القاهرة تطويها بالتفاهم الضمني مع السلطات الإيطالية من خلال تغليب المصالح المشتركة، التي أدت إلى التهدئة وعودة سفيري البلدين.
دارت وجهتا نظر حول التعامل مع القضية في الأروقة المصرية، الأولى اعتمدت على الطريقة التقليدية في الإنكار التام، لكن تحت إلحاح وضغوط متوالية أقرت القاهرة بوقوع الحادث، نافية علاقة السلطات الأمنية به، وهو ما أدى إلى زيادة حدة الضغوط، التي استفاد أصحابها من التقدم التكنولوجي في تتبع التحركات الهاتفية للطالب الإيطالي في مصر.
أدى التعاون القضائي المشترك إلى ظهور فجوات، سمحت لفريق التحقيق الإيطالي بالتشكيك في خط السير الذي تمضي فيه التحقيقات، إلى أن تم التلويح بوجود شخصيات أمنية محددة متورطة في القضية، وهي نقطة تسبب إزعاجا كبيرا للقاهرة، إذا ثبتت صحتها، لأنها سوف تؤدي إلى مشكلات عميقة للأمن المصري المعروف بصرامته.
كشفت بعض المصادر المصرية لـ”العرب”، أن القاهرة ألمحت إلى روما “وجود جهاز استخبارات غربي وراء الحادث، كان يعمل لحسابه الطالب ريجيني”، على أمل أن تضطر إيطاليا إلى غلق القضية، خوفا من أن تجد نفسها وجها لوجه أمام دولة صديقة لها في الاتحاد الأوروبي.
يبدو أن هذا السيناريو لم يجد ما يدعمه بأدلة قوية من الجانب المصري، وتوارى وسط زحمة اللقاءات والتحقيقات والتقارير المختلفة، ولم تجد الحكومة الإيطالية ما تقوله صراحة، فإذا أفصحت عن هذا السيناريو سوف تكون مجبرة على تتبعه حتى نهايته أمام الزخم الذي يحظى به ملف ريجيني، وفي هذه اللحظة يبدو الأمن المصري وكأنه مخترق من جهات خارجية، وإذا تجاهلته جعلت القضية حاضرة عند كل محك أو تطور جديد، وفضّلت هذا الخيار.
يأخذ البعض من المتابعين على القاهرة عدم تقديرها لخطورة القضية وتشابكاتها منذ البداية، والتعامل معها بطريقة أمنية محلية، أدت إلى التخبط السياسي في المعالجة الفنية، فتارة تعلن نجاحها في القبض على من اعتدوا على الطالب الإيطالي، وأخرى تلوّح بالقتل الخطأ.
في كل الأحوال تركت هذه الطريقة شكوكا في نوايا القاهرة، المتهمة أصلا من قبل منظمات دولية بارتكاب تجاوزات في مجال حقوق الإنسان، وهو ما حاولت بعض الدوائر الربط بينه وبين ريجيني لمنح قضيته زخما دوليا، قد يتزايد في الفترة المقبلة، ما لم تقدم القاهرة أدلة عملية تسكت هؤلاء، وتقنع الحكومة الإيطالية بعدم الانسياق وراء الموقف الذي اتخذه مجلس النواب.
لجأت السلطات المصرية إلى وضع ثقلها خلف الخيار الثاني الخاص بالتعاون والتنسيق مع إيطاليا في القضايا الحيوية محل الاهتمام المشترك، ووضع التعاون القضائي في المرتبة الثانية، وعزّزت علاقاتها في مجال الغاز في شرق البحر المتوسط، ومنحت شركة “إيني” امتيازات كبيرة للتنقيب في المياه الإقليمية والأراضي المصرية.
تعد إيطاليا شريكا أساسيا لمصر، ويبلغ حجم التبادل التجاري 4.75 مليار يورو، وروما هي أكبر مستورد من القاهرة بقيمة 1.8 مليار دولار، وخامس أكبر مستثمر أجنبي في مصر بقيمة 7 مليار يورو.
عزّزت القاهرة التعاون مع روما في مجال الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب في المنطقة بما يقلل حجم المخاطر على إيطاليا، وتفهمت على مضض طبيعة دورها في الأزمة الليبية، وبدت حريصة على التعاون معها إلى درجة كبيرة، وغضت الطرف عن توجهات روما التي تميل إلى التعامل مع خصوم القاهرة في الأزمة، من ميليشيات وجماعات إسلامية متشددة وشخصيات سياسية معرقلة للمصالح المصرية.
كانت ظلال قضية ريجيني حاضرة بقوة في الكثير من التطورات بين البلدين، وعملت روما على توظيفها بصورة غير مباشرة، بينما تصرفت القاهرة معها وكأن “على رأسها جرحا سياسيا غائرا” عليها أن تخفيه كلما سنحت الفرصة بذلك، وتبنت منهجا يقوم على أن “الزمن كفيل بمعالجة جميع الجروح”، ولم تنتبه إلى أن المعطيات الدولية تمنح هذا النوع من القضايا أهمية فائقة، قد لا تسقط بالتقادم، وهناك متربصون من مصلحتهم ضخ الدماء في عروق القضية، إذا واجهت فتورا إعلاميا.
ذهب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى باليرمو في 12 نوفمبر الماضي، لحضور قمة أمنية مصغرة خاصة بالأزمة الليبية، لتوفير دعم سياسي للحكومة الإيطالية لنجاح مؤتمرها، وهو غير عابئ بتدني الحضور المصري في مؤتمر باريس الخاص بالأزمة نفسها، فلم تغب عن ذهنه قضية الطالب ريجيني، وبنت القاهرة جزءا كبيرا من هذا التحرك على رغبة في نسيان الحادث ومحاولة إغلاقه تماما.
لم تدرك القيادة المصرية المعاني الداخلية التي حملتها عدم زيارة جوزيبي كونتي رئيس وزراء إيطاليا للقاهرة الشهر الماضي، بينما ذهب الرجل إلى كل من تونس والجزائر للحصول على دعمهما في توجهات بلاده لحل الأزمة الليبية، واكتفى جوزيبي بسلسلة اتصالات هاتفية مع السيسي، خوفا من إثارة غضب المعارضة الإيطالية، التي يمكن أن تستثمر قضية ريجيني للنيل من حكومة جوزيبي كونتي، ما يجبره على الاحتفاظ بمسافة أكبر عن القاهرة.
تبقى لعنة ريجيني معلقة ما لم تتمكن مصر من القبض على زمام المبادرة واللجوء إلى أقصى مدى في المكاشفة الأمنية، والاستفادة من الأخطاء التي ارتكبتها طريقة المعالجة، لأن هناك من يتربصون ويريدون المساواة بين خاشقجي وريجيني.